المدينة المتاهة.. كشف تفاصيل العمارة الدفاعية في بلاط الوادي الجديد
كتب : محمد الباريسي
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
في قلب صحراء الوادي الجديد، وعلى ربوة عالية تُشرف على الطرق والدروب الرملية، تقف مدينة بلاط الإسلامية العتيقة كأنها حارسٌ صامتٌ لتاريخ الواحات وتراثها. هنا، على مساحة تناهز 22 فدانًا من البيوت الطينية والأزقة المتشابكة، يلتقي عبق العمارة الإسلامية بروح الصحراء، لتتشكل قرية تبدو كمتاهة، لكنها في الحقيقة كتاب مفتوح يروي حكاية مئات السنين من التكيّف مع البيئة، ومواجهة قسوة المناخ وتغيّرات الزمن.
مصراوي خاض جولة بين دروب المدينة الإسلامية القديمة وما يحيط بها من شواهد فرعونية ورومانية وعثمانية، واستمع إلى شهادات عدد من المختصين والمسؤولين الذين كشفوا أسرار هذا المكان الفريد، وكيف تحوّل إلى متحف مفتوح يعكس تمازج الحضارات في نقطة واحدة من صحراء مصر الغربية.
جذور بلاط القديمة
على بُعد كيلومتر واحد فقط من المدينة الإسلامية، ترقد مقابر بلاط الفرعونية العائدة إلى الأسرة السادسة، حوالي عام 2420 قبل الميلاد. في تلك الهضبة الصخرية، ما زالت جدران المقابر تحتفظ برسومات حية تجسد تفاصيل الحياة اليومية للمصريين القدماء؛ صيادون، فلاحون، وموكب حكام يراقبون الصحراء من علٍ.
يقول الأثري منصور عثمان، في تصريحات خاصة لمصراوي، إن الشواهد الفرعونية المحيطة ببلاط تشير إلى أن المنطقة كانت مركزًا لحكام الواحات خلال الدولتين القديمة والوسطى، موضحًا أن "قلاع الضبة وعين الأصيل ومقبرة حاكم الواحات التي يحمل مدخلها نقشًا هيروغليفيًا يصفه بـ"أقوى حكام الصحراء" تعكس الدور المحوري للمنطقة في إدارة طرق القوافل والتجارة عبر الصحراء".
وتابع : ومع مرور الزمن، استمرت المنطقة مسرحًا للحضور الحضاري، فظهر التأثير الروماني في مقبرة "كتيانوس" الشهيرة بقرية البشندي القريبة، حيث تجسد نقوشها مشاهد التحنيط والبعث في مزيج بين الفن المصري والروماني، قبل أن تنتقل ريادة المكان في العصور اللاحقة إلى المدينة الإسلامية التي عُرفت اليوم باسم "بلاط الإسلامية".
ميلاد مدينة على ربوة عالية
مع بدايات العصر الإسلامي ثم العثماني، بدأت ملامح مدينة جديدة تتشكل على ربوة مرتفعة في قلب الواحة. هنا وُلدت بلاط الإسلامية، مدينة صغيرة لكنها محصنة، بُنيت بالطوب اللبن وخشب السنط وجريد وجذوع النخيل، لتوفر لسكانها حماية من الأعداء ومن مخاطر البيئة في وقت واحد.
هذا ما أكده الخبير الأثري بهجت أبوصديرة، مدير الآثار السابق بالوادي الجديد، موضحا في حديثه لمصراوي أن اختيار موقع المدينة لم يكن صدفة، قائلاً:
"بلاط الإسلامية أُنشئت على ربوة مرتفعة كإجراء وقائي يحميها من المياه الجوفية ويمنحها في الوقت نفسه موقعًا دفاعيًا استراتيجيًا، يسمح لسكانها برصد أي حركة قادمة نحو الواحة قبل وصولها."
ويضيف أن الأزقة الضيقة والمسقوفة بالأخشاب داخل المدينة لم تُنفذ بطريقة عشوائية، بل جرى تخطيطها بعناية لتوفير نظام تبريد طبيعي يعتمد على فكرة "الاتزان البيئي"، أي الاستفادة من الظل والتهوية الطبيعية لخفض درجات الحرارة داخل المنازل والدروب، وهو ما جعل المدينة أشبه بنظام تكييف طبيعي متكامل في قلب الصحراء.
متاهة تحمي أهلها
تابع أبو صديرة: من يسير اليوم داخل دروب بلاط الإسلامية يشعر كأنه دخل متاهة من الطين والخشب، غير أن هذه "المتاهة" وُضعت لمقاصد واضحة؛ الحماية والاحتماء، فالمنازل متلاصقة ومتقاربة، والفناء المكشوف عنصر رئيسي في التخطيط المعماري، والممرات ضيقة، والمباني مرتفعة على جانبي الطريق، ما يجعل الظلال تمتد طوال ساعات النهار.
يوضح أبوصديرة أن استخدام الطوب اللبن المخفف ساعد على تخفيض الحرارة داخل الجدران، بينما أسهم سمك الحوائط وضيق الممرات وارتفاع المباني في توفير ظل دائم على الدروب والبيوت، مضيفًا أن "السقائف الخشبية التي تعلو أجزاء من الطرق ليست مجرد عنصر جمالي، بل جزء أساسي من منظومة معمارية صُممت لتحد من قسوة الحر وتخلق بيئة معيشية مريحة في مناخ صحراوي شديد الجفاف".
وأشار إلى أنه يعكس هذا التخطيط البسيط – في مظهره – فهمًا معماريًا متقدمًا لفكرة العمارة البيئية، قبل أن تُعرف بهذا المصطلح في الدراسات الحديثة بقرون طويلة؛ فكل عنصر في المدينة، من مواد البناء إلى شكل الأزقة والفناءات، يخدم هدفًا واحدًا: توفير الأمان والراحة للسكان مع احترام شروط البيئة المحيطة.
نقوش خشبية تسجل ذاكرة القرية
على واجهات المنازل في بلاط الإسلامية، تظهر مجموعة من الأعتاب الخشبية المحفورة بالحفر البارز، تحمل نقوشًا وزخارف عربية وتواريخ وأسماء أصحاب البيوت. هذه الأعتاب ليست مجرد عناصر معمارية، بل صفحات خشبية تسجل ذاكرة القرية وأجيالها المتعاقبة.
الأثرية سهام بحر، مديرة الآثار الإسلامية بالوادي الجديد، تصف هذه النقوش في تصريحاتها لمصراوي بأنها "وثيقة تاريخية حية"، موضحًا أن أقدم تاريخ مدون على هذه الأعتاب يعود إلى سنة 1163 هجريًا، بينما يصل أحدثها إلى 1253 هجريًا، ما يعني أن المدينة حافظت على عمرانها وسكانها خلال ما يزيد عن قرنين كاملين.
وتشير إلى أن الجدران الداخلية للمنازل تضم آيات قرآنية وأدعية وأسماء الملاك وأبنائهم، ما يجعل كل بيت أشبه بسجل عائلي منقوش على الطين والخشب، يعكس القيم الدينية والاجتماعية الراسخة لأهالي الواحة، ويمنح الباحثين مادة نادرة لدراسة أنماط الحياة والعلاقات الاجتماعية في المجتمعات الصحراوية التقليدية.
مقر البلاط الملكي في العصر العثماني
قال محسن عبد المنعم يونس، مدير هيئة تنشيط السياحة بالوادي الجديد، إنه تعود تسمية المدينة بـ"بلاط" إلى كونها كانت مقرًا للبلاط الملكي في العصر العثماني، حيث اتخذها بعض الحكام والإداريين قاعدة لإدارة شؤون الواحات، هذا الدور السياسي والاجتماعي ترك بصمته الواضحة على خريطة المدينة؛ فبين منازل الأهالي تنتشر عمائر دينية ومدنية تعكس أهمية المكان.
وتابع : إنه من أبرز المعالم داخل المدينة ديوان العمدة، ومسجد "عين قبالة"، ومسجد "عين علم"، إلى جانب بيت عائلة إبراهيم والطواحين وعصارة الزيتون. كما تضم المدينة عددًا من المساجد والكتاتيب والمنازل المكونة من طابق أو اثنين أو ثلاثة، بالإضافة إلى عمائر خدمية مثل الطواحين والعصارات والموانئ والحوانيت التي كانت تخدم السكان والقوافل المارة.
ويؤكد محسن لمصراوي أن تخطيط المدينة الداخلي، من تقسيم الأحياء إلى توزيع المساجد والكتاتيب، يعكس مكانتها كمركز حضري مهم في العصور الإسلامية، وليس مجرد تجمع سكني معزول في الصحراء.
تنظيم اجتماعي راسخ
ورغم مرور مئات السنين، لا يزال التنظيم الاجتماعي التقليدي قائمًا في بلاط الإسلامية حتى اليوم، يوضح محسن عبد المنعم، مدير تنشيط السياحة بالوادي الجديد، في تصريحات لمصراوي أن شوارع القرية ما زالت مقسمة إلى مناطق تحمل أسماء العائلات الكبرى، ويعرف السكان كل حارة بأهلها وتاريخها، ما يعكس استمرار نموذج المجتمع العائلي المتماسك.
ويضيف أن "هذا النمط من التقسيم لا يحفظ فقط الروابط الأسرية، بل يساعد أيضًا في تنظيم الحياة اليومية، من المناسبات الاجتماعية إلى إدارة الخلافات، ويخلق نوعًا من الانتماء القوي لكل زاوية في المدينة".