إعلان

"الجديدة" بالوادي الجديد.. حكاية قرية لم تقهرها الرمال أو الاحتلال

كتب : مصراوي

06:29 م 30/05/2025

تابعنا على

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

وسط تلال رملية مترامية ومزارع نخيل ممتدة، تقع قرية "الجديدة" على بُعد 20 كيلومترًا من مدينة موط، عاصمة مركز الداخلة بمحافظة الوادي الجديد، حاملة في طياتها تاريخًا طويلًا من الصمود والازدهار في وجه الكثبان الزاحفة والاحتلال الإنجليزي، ومجتمعًا يفاخر بعاداته وتقاليده الأصيلة التي لا تزال حية حتى يومنا هذا.

في هذا التقرير ، يكشف "مصراوي" الحكاية الكاملة لقرية الجديدة، بدءًا من أولى العائلات التي استوطنتها، مرورًا بتجارب المقاومة الفريدة ضد الغزو الرملي، ووصولًا إلى تفاصيل الحياة اليومية والعادات الاجتماعية التي ما زالت تُمارس حتى الآن، ضمن وحدة محلية تضم قرى وعزبًا تتوزع في عمق الصحراء.

البدايات

نشأت قرية الجديدة في قلب الصحراء، لكنها لم تكن يومًا معزولة عن التحول العمراني الذي شهده وادي النيل، وعلى الرغم من الطبيعة الجغرافية القاسية، إذ تفصل تلال رملية بين الرقع الزراعية، فإن الأرض هناك غنية وخصبة، وتحيط بها مزارع النخيل التي أصبحت علامة مميزة للقرية.

وعدد سكان القرية اليوم يناهز 7 آلاف نسمة، وتتميز بنسبة تعليم مرتفعة، إلا أن الزراعة لا تزال المهنة الأساسية لمعظم الأهالي، بجانب عدد من الوظائف الحكومية وتتبع إداريا الوحدة المحلية لمركز الداخلة.

زحف الرمال معركة عمرها عقود

لم تكن الرمال في يوم من الأيام مجرد عنصر طبيعي في الواحات، بل خصمًا زاحفًا ابتلع قرى كاملة قبل عقود، غير أن الوضع تغيّر منذ خمسينيات القرن الماضي، مع بداية جهود استصلاح الأراضي، ما أدى إلى توسع الرقعة الزراعية، وزحف العمران إلى عمق الصحراء.

في هذا السياق، يكشف الدكتور عبد المنعم حنفي، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة بورسعيد، من أبناء مركز الداخلة، في تصريحات خاصة لـ"مصراوي"، تفاصيل جهوده في وقف زحف الرمال، قائلاً: "في عام 1982، عندما كنت رئيسًا لمركز الداخلة، أجريت دراسة ميدانية بالتعاون مع الدكتور فاروق الباز، بدأت في عام 1974، عن حركة الكثبان الرملية، حينها حفرت بئرًا لمياه الشرب شمال حديقة العمدة، وجرى تشجيع الأهالي على الزراعة فوق غرود الرمال، ما ساهم في وقف الزحف نحو منطقتي الجوسق ونخيل العمدة."

ويضيف حنفي:"في المنطقة الغربية من قرية الجديدة، قسمت الكثبان إلى أراضٍ ووزعتها على الأهالي للبناء عليها، جهزنا الطرق بالطفلة، ومددنا شبكات المياه، فتحولت الرمال إلى مساكن حية على جانبي طريق الموشية."

عمودية متوارثة وتاريخ مشرف

من بين أبرز وجوه القرية، يبرز اسم العمدة شاذلي منصور، الذي ورث العمودية أبًا عن جد، ويُعرف بأنه أحد الشخصيات البارزة في الوادي الجديد.

يقول محمود عبد ربه، خبير التراث والتاريخ الواحاتي، إن العمدة جهز مضيفة لاستقبال كبار زوار المحافظة، ويحتفظ بسجل نادر يضم كلمات كبار الشخصيات الذين زاروا القرية منذ أوائل القرن التاسع عشر، ويروي العمدة شاذلي حكاية الاستيطان الأولى للجديدة، قائلاً في مذكراته: "أول من استوطن القرية كان أجدادي من عائلة شاذلي منصور (مزاج)، وهم من بني عديات بأسيوط، ولهم فروع في الراشدة وبدخلو، كنا من أوائل العائلات التي أسست مدرسة أهلية في أوائل القرن العشرين، وساهمنا في نشر التعليم بالجهود الذاتية."

ويتابع:"الخديوي عباس حلمي منح جدي البكاوية وسيفًا مذهبًا ووسام النيل الخامس تقديرًا لدوره المجتمعي."

"الجديدة" في مواجهة الاحتلال

وفي شهادة تاريخية يرويها الشيخ منصور شاذلي، نجل العمدة وشخصية بارزة في القرية حاليًا والعمدة الحالي خلفا لوالده، يؤكد لـ"مصراوي" أن "قرية الجديدة كانت الوحيدة في الواحات التي لم يتمكن الاحتلال الإنجليزي من فرض إتاوة عليها، عندما طلبوا مساهمة مالية، بعث لهم جدي بما يريدونه دون السماح لهم بدخول القرية، وهو ما جعلهم يمنحونه البكاوية احترامًا لموقفه."

أول قرية تُضاء بالكهرباء

عندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه الشهير عن "إنشاء وادٍ جديد يوازي وادي النيل"، كانت الجديدة حاضرة في الإعلام الوطني، حيث أكد محمود عبد ربه، خبير تاريخ الواحات أن العمدة شاذلي استضافته الإذاعية آمال فهمي للحديث عن قرية الجديدة في برنامجها (على الناصية)، بسبب كونه من أبرز رجال المنطقة".

ويتابع عبد ربه: "في نهاية الستينيات، أصبحت الجديدة أول قرية تُضاء بالكهرباء بعد مدينة موط، ما قلل من معدلات الهجرة، بل بدأت تستقبل وافدين من وادي النيل."

"الجديدة" في شوارع القاهرة

وفي إشارة إلى ارتباط القرية بالحركة التجارية في العاصمة، أكد محمود عبد ربه، أغلب أصحاب المحال التجارية في شارع باب البحر بالقاهرة من أهالي الجديدة، وهاجروا في الثلاثينيات طلبًا للرزق، ولا يزالون يحتفظون بروابط قوية مع مسقط رأسهم.

عادات وتقاليد متوارثة

وعن الموروث الثقافي للقرية، يروي الدكتور عبد المنعم حنفي، الأستاذ الجامعي والمهتم بتاريخ الواحات وابن مركز الداخلة، أن عادات الزواج ما زالت حية، موضحًا: "في كل زفاف، تذبح عائلتي العريس والعروس ذبيحة لإطعام أهل البلدة بالكامل، وتقوم أم العروس بتقديم صينية فيها سبعة أزواج من الحمام على مدار أسبوع، وفي ليلة الدخلة يُقدم للعروس (عشاء القلب) وهو قلب الذبيحة مع زوج حمام."

ويضيف: "الزفة كانت تجري على ظهر جمل أو حصان، ويزور أهل العروس أضرحة الشيخ سيد والشيخ خضر لقراءة الفاتحة وطلب البركة."

قرى تابعة

يؤكد محسن عبد المنعم، مدير هيئة تنشيط السياحة بالوادي الجديد، إن الوحدة المحلية لقرية الجديدة تضم عدة قرى وعزب تابعة، منها "عزبة الغرغور" و"قرية القلمون" و"الموشية"، وقد شهدت جميعها تطورًا عمرانيًا ملحوظًا خلال العقود الأخيرة، مدعومًا بالمشاريع الحكومية ومبادرات الأهالي.

وتبقى قرية "الجديدة" نموذجًا فريدًا للصمود والتطور في قلب الصحراء، حيث اجتمع التاريخ مع الحداثة، واحتضنت الرمال ذاكرة شعب استطاع أن يحول العزلة إلى حضارة محلية نابضة بالحياة.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان