إعلان

مدينة كاملة تحت رمال الصحراء المصرية.. "أمهدية" مستوطنة رومانية تعود للحياة بعد آلاف السنين

كتب : مصراوي

12:48 م 25/09/2025

تابعنا على

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

في الركن الشمالي الغربي من واحة الداخلة، وعلى مقربة بضعة كيلومترات من بلدة القصر الإسلامية، تقف أمهدية كأنها شريط محفوظ من الزمن؛ مدينةٌ رومانية متأخرة هجرت في أواخر القرن الرابع الميلادي فغطّتها الرمال، لتصون عمرانها ونقوشها ومدرستها وحمّامها وكنيستها الجنائزية المبكّرة، وتمنح الباحثين اليوم نافذة نادرة على حياة مدينة واحية على أطراف الإمبراطورية.

تقع أمهدية في شمال-غرب واحة الداخلة بمحافظة الوادي الجديد، ويُعرّفها باحثو الآثار باعتبارها موقع مدينة "ترِيمِيثِس" (Trimithis) الرومانية-المتأخرة، اسمها في المصرية القديمة كان "ست-واح (Set-wah) أي موضع الراحة، قبل أن تُعرف في العصرين البطلمي والروماني باسمها اليوناني "ترِيمِيثِس".

هذا ما أكد الخبير الأثري ماهر بشندي، المدير السابق لمنطقة آثار الداخلة، قائلًا لمصراوي، إنّ الموقع يقع على مسافة قصيرة جنوبي بلدة القصر، وكان جزءًا من نطاقها الإداري في فترات تاريخية لاحقة، وهو ما تعزّزه دراسات منشورة لمشروع أمهدية.

تابع ماهر: إن هناك إرهاصات مبكّرة على أطراف أمهدية دلائل ضاربة في القِدم تشير إلى نشاطات تعود إلى ما قبل التاريخ، مع شواهد من عصر الدولة القديمة في محيط التل الذي سيُشيد عليه لاحقًا معبد للإله تحوت؛ ما يعني أنّ المكان عرف أهمية مبكّرة قبل تحوّله مدينةً متكاملة.

ولفت إلى أنه من الدولة الحديثة إلى العصرين البطلمي والروماني جرى إنشاء معبد لتحوت في أمهدية منذ الدولة الحديثة، واستُخدم عبر العصرين البطلمي والروماني.

وقال ماهر إن القرن الرابع الميلادي هو ذروة المدينة حيث بلغت ترِيمِيثِس أوجها في العصر الروماني المتأخر/المسيحي المبكر. كشفت الحفائر عن مدرسة للآداب اليونانية جرى تدوين نصوصها مباشرة على الحوائط، وعن منزل "سُرينوس" (Serenos) عضو مجلس المدينة بزخارف جداريّة أسطورية، وحمّام عام متعدد المراحل، إلى جانب كنيسة جنائزية مبكرة من القرن الرابع الميلادي تُعد بين أقدم الكنائس المبنية غرضيًّا في مصر وتضم أحد أقدم السراديب الجنائزية المسيحية المكتشفة كما أنّ المدينة هُجرت في أواخر القرن الرابع على الأرجح.

وأشار إلى أنه في القرن التاسع عشر وما بعده تعاقبت زيارات الرحّالة الأوروبيين منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، ثم بدأت أعمال استكشاف علمي منتظم في الستينيات، وصولًا إلى إطلاق مشروع أمهدية مطلع الألفية الجديدة ضمن مشروع واحة الداخلة، قبل أن تصبح جامعة نيويورك (ISAW/NYU) الراعي الرئيس منذ 2008 بالتعاون مع شركاء دوليين.

لفت الخبير الأثري منصور عثمان، خبير آثار قبطية بالوادي الجديد، إن المنطقة بها عدة منازل ومكونات أثرية بينما يُعدّ بيت سُرينوس واحدًا من أفضل النماذج السكنية الحضرية المتأخرة في الصحراء المصرية، زخارفه الجدارية الأسطوريّة وقاعاته المزخرفة أعطت الباحثين مفتاحًا لفهم الذائقة الفنية والرمزية للنخبة المحلية، بجواره مباشرةً مدرسة للآداب اليونانية جرى فيها تدوين نصوص حثٍّ بلاغي على الجدران بالأحمر، تدعو التلاميذ إلى معانقة ذُرى الخطابة بصحبة ربات الفنون.

قال منصور، لمصراوي، إنّ هذه المجموعة منزل سُرينوس مع المدرسة وثّقت جانبًا فريدًا من الحياة المدنية والتعليمية في واحة الداخلة خلال القرن الرابع، بينما يوجد بالمنطقة حمام، حيث يعكس الحَمّام بنية الخدمات في المدينة الرومانية وتحوّلاتها عبر الزمن؛ إذ جرى توثيق مراحل استخدام متعاقبة تُظهر حيوية المكان وتكيّفه مع احتياجات السكان.

وتابع مصنر، إن المنطقة بها كنيسة جنائزية المبكّرة و بين 2012 و2023 جرى التنقيب في كنيسة بازيلية مبكرة، ونُشرت نتائجها في 2024، وتُظهر أنّها واحدة من أقدم الكنائس المبنيّة خصيصًا في مصر، مع سرداب جنائزي مبكّر يُعد من الأقدم المكتشفة، كما أنّ هذا الكشف أعاد رسم خريطة بدايات المسيحية في الواحات.

أكد منصور، جرى اعتبار أمهدية العينة الأكمل تقريبًا لمدينة واحية متأخرة، لأنّ الرمال حفظت طبقاتها العمرانية والتعليمية والدينية حيث إن هذه الصورة المتكاملة تُظهر سلطة محلية فاعلة (مجلس مدينة)، وتعليمًا يونانيًا حيًا، وخدمات عامة (حمّام)، وعمارة سكنية مزخرفة، ومنشآت دينية من معبد لتحوت إلى كنيسة جنائزية مبكّرة، مع اقتصادٍ متّصل بالواحات الأخرى ووادي النيل.

قال محسن عبد المنعم الصايغ، مدير الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، لمصراوي، إن مشروع أمهدية انطلق عام 2001 بإشراف أكاديمي دولي، وأصبحت جامعة نيويورك منذ 2008 الراعي الرئيس، مع استمرار شراكات من جامعات ومراكز بحثيةمختلفة.

نظرًا لثراء النقوش الحجرية والكتل المزخرفة المنقولة من المعبد، جرى إنشاء هيكل/مأوى خاص لحمايتها من عوامل التعرية، إلى جانب تنفيذ نموذج معماري مُعاد لبيت سُرينوس قرب مدخل الموقع، جرى تهيئته ليصبح نواة مركز استقبالٍ للزوّار عند استئناف الحركة السياحية.

هذا ما أكده محسن لمصراوي، قائلا إن هذا البيت المُعاد بناؤه يتيح للزائر أن يعيش تجربة واقعية عن الحياة اليومية في القرن الرابع الميلادي دون تعريض الأصل لخطر الانهيار كما أنّ النموذج المماثل للبيت الأثري احتاج إلى أعمال ترميم بعد موجة أمطار استثنائية تعرّضت لها المنطقة مؤخرًا، حرصًا على جاهزيته لاستقبال الزائرين، لافتًا إلى أنّ الإدارة العلمية تُفضّل فتح النموذج للجمهور بدل المبنى الأصلي الحسّاس إنشائيًا وفنيًا».

بعض منازل أمهدية تميّز بزخارف جدارية ملونة تصوّر مشاهد أسطورية ومناظر طبيعية؛ وهو إرث بصري جرى أن يعكس رُقيّ الذائقة وتنوّع مصادرها الرمزية في مجتمع واحة متداخل الثقافات.

لفت محسن، إلى أنّ بيت سُرينوس يقدّم منظومة زخرفية استثنائية في قاعة الاستقبال الكبرى، الأمر الذي يدعم قراءة جديدة للهوية الفنية في الواحات خلال أواخر العصور القديمة، كما عُرف عن بعض القاعات الكبرى اعتمادُ الأعمدة المزدوجة بما يعكس فخامة ملحوظة في الفراغات الداخلية كما أنّ البرنامج الجمالي في بيت سُرينوس يُعد مرجعًا لفهم تفاعل الواحات مع الثقافة الكلاسيكية في زمن التحوّل الديني.

المبنى التعليمي المجاور لبيت سُرينوس احتفظ بنصوص يونانية مرسومة مباشرةً على الجدران، بينها خمسة أعمدة كتابية تحثّ التلاميذ على معالي البلاغة بصحبة ربات الفنون.

هذا ما أكده الخبير الأثري بالوادي الجديد، منصور عثمان، لافتا إلى هذا الاكتشاف النادر جرى أن يلقى اهتمامًا أكاديميًا واسعًا نظرًا لطبيعته الحيّة التي تُشبه قاعات الدرس الحديثة بمقاعدها ونصوصها، ويمنح الباحثين منظورًا تطبيقيًا على طرائق التعليم في مدينة واحية كما أن النقوش التعليمية مكّنت من قراءة يوميات المدرسة، من صرامة التدريب البلاغي إلى بنية القاعة ومكوّناتها.

الكشف عن كنيسة بازيلية مبكّرة بين 2012 و2023، ونشر المجلد الأول من دراستها عام 2024، أعاد تموضع أمهدية على خريطة بدايات المسيحية في الصحراء الغربية، الكاتدرائية الصغيرة تضم سردابًا جنائزيًا من الأقدم المكتشفة في مصر، ما يفتح سجالًا علميًا حول طقوس الدفن المسيحي الأولى، وعلاقة المدينة بتحوّلات العبادة من معبد تحوت إلى بيئة كنسية ناشئة.

هذا ما أكده منصور، لافتا إلى أنّ هذا الكشف يبرهن أنّ التحوّل الديني في الواحات لم يكن هامشيًا بل مؤسِّسًا لبنى عمرانية وشعائرية جديدة.

أمهدية ليست مجرّد "مستوطنة رومانية" في صحراء واسعة؛ إنّها ملفٌّ حضاري مكتمل الصفحات تقريبًا: مجلس محلي ونخبة مدينية، مدرسة بلاغة يونانية، حمّام عام، عمارة سكنية مزخرفة، معبد لإله مصري قديم وكنيسة جنائزية مبكرة؛ وكل ذلك في نسيج اقتصادي اجتماعي متّصل بالواحات الأخرى ووادي النيل.

مدير هيئة السياحة بالوادي الجد ختم حديث لمصراوي قائلا إنه حين هجرت المدينة بنهاية القرن الرابع الميلادي، كفلت الرمال عن غير قصد حماية استثنائية لمدينة كاملة يمكن اليوم قراءتها طبقةً طبقة، كأنّها تعود لتخبرنا كيف عاش الناس وتعلّموا واعتنقوا وتبادلوا السلع في قلب الصحراء.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان