إعلان

بالصور- كنز مخفي في الوادي الجديد.. مناور مياه ومومياوات تحت الرمال

كتب : مصراوي

01:10 م 02/10/2025

تابعنا على

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

كشفت مناور اللبخة شمال مدينة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد عن طبقاتٍ متعاقبة من الحكاية المصرية، تمتد من إشاراتٍ فرعونية مبكرة إلى حصونٍ رومانية ومزاراتٍ مسيحية لاحقة، ثم اكتشافاتٍ حديثة وثّقت مئات المومياوات وشبكات ري تحت الصخور.

في هذا المكان المعزول على ربوةٍ عالية وسط الجبال، تتجاور بقايا بيوتٍ لبنٍ عتيقة مع حصنٍ شاهق ومعبدٍ صخري ومقابر منحوّتة، بينما تُظلل المشهد أشجار اللبخ والإثل والأكاسيا والدوم، في تداخلٍ نادر بين الطبيعة والتراث. وعلى الرغم من قيمته العلمية والسياحية، لا يزال الموقع ينتظر خطة إنقاذ وتطوير تعيد إليه صوته وتضعه على خريطة السياحة الثقافية والاستشفائية في مصر.

من إشارات الفراعنة إلى حكاية الاسم: البدايات الأقدم

تبدأ الحكاية من النبات قبل الحجر، فبحسب حديث الأثري حسن جابر، مفتش آثار منطقة الخارجة، لمصراوي، أكد انه جرى إطلاق اسم “اللبخة” على المنطقة نسبةً إلى أشجار اللبخ التي عُرفت خصائصها في واحات الصحراء منذ عصورٍ موغلة في القِدم.

يقول الحاج سيد حسنين طليب، أحد أقدم سكان عزبة طليب المجاورة، وراعي المنطقة شمال واحة الخارجة، في تصريحاتٍ خاصة لـ"مصراوي"، إن الأشجار القائمة اليوم “امتدادٌ لغطاءٍ نباتي عرفه الأجداد”، مضيفًا أنّ بقايا بيوتٍ طينية ما زالت شاهدةً على أن المكان كان مأهولًا لعقودٍ طويلة، وأنه يحتفظ هو نفسه بمنزلٍ ورثه عن أجداده. هنا تتشكّل أولى ملامح المشهد: استيطانٌ قديم، بيوت لبن، وواحةٌ خضراء وسط صحراء قاسية، قبل أن تدخل المنطقة زمن الطرق التجارية الكبرى.

زمن القوافل والضبط العسكري: الحصن الروماني

مع ازدهار دروب التجارة العابرة للصحراء، خاصة ما اتصل منها بمسالك الشمال والغرب ودرب الأربعين جنوبًا، احتاجت الدولة إلى نقاط حراسةٍ محكمة تؤمّن الحركة وتمنع الغارات وتوفّر الماء والغذاء.

الخبير الأثري بهجت أحمد إبراهيم، مدير الآثار المصرية السابق بالوادي الجديد، أكد لـ"مصراوي" أنّه جرى إنشاء حصن اللبخة عند قاعدة الجرف الشمالي لوادي الصحراء الغربية في موقعٍ يتحكم في تقاطع الطرق القديمة، شُيِّد الحصن من الطوب الطيني، وارتفعت جدرانه إلى نحو 12 مترًا، ودُعِّم بأربعة أبراجٍ مستديرة على الزوايا الأربع لتعزيز القدرة الدفاعية.

وقال بهجت، إنه كان المدخل الرئيسي في الجهة الشرقية، غير أنّ عوامل الزمن أطاحت بجزءٍ معتبر من الواجهات، فغدا الداخل اليوم غرفًا مقببة وأطلالًا مطمورة بالرمال. وإلى الجنوب من الحصن بئرٌ ضخم جرى الاعتماد عليه كمصدرٍ رئيسي للمياه للحامية العسكرية والمستوطنة المحيطة، في إشارةٍ واضحة إلى حجم المجتمع الذي عمر المكان.

عبقرية الماء: المناور والقنوات تحت الصخور

لا يُفهم حصنٌ بلا ماء، ولا تُفهم الواحة بلا شبكة، مدير آثار الوادي الجديد الأثري محمد إبراهيم، أوضح لـ"مصراوي" أنّ مناور اللبخة تمثّل نموذجًا فريدًا للهندسة المائية في الصحراء الغربية خلال العصر الروماني، إذ جرى شق قنواتٍ تحت الصخور لالتقاط المياه ونقلها من البئر إلى الحقول المحيطة.

وقال إنه تشير القرائن الميدانية إلى وجود نحو 14 قناة، ما بقي منها حتى اليوم يكفي لقراءة عقلٍ هندسيٍ استثمر تضاريس الأرض ليضمن تدفقًا منتظمًا للماء في بيئةٍ شحيحة الموارد، هذه الشبكة لم تكن رفاهية، بل شرط حياةٍ لحاميةٍ تحمي القوافل ولحقولٍ تعطي ما يكفي من الزاد للمقيمين والعابرين على السواء.

المعبد الجنوبي: صخرٌ مُقدّس ورموز متداخلة

إلى الشمال من القلعة، وعلى نتوءٍ طبيعي يطل على الوادي، يقف المعبد الجنوبي شاهدًا على طبقات الاعتقاد التي مرّت على المكان.

الخبير الأثري منصور إبراهيم، مدير الآثار القبطية السابق بالخارجة، قال لـ"مصراوي" إنّ اكتشاف المعبد جرى بين عامي 1991 و1992 على يد الأثري عادل حسين، وإنّ تخطيطه يُشبه معابد الـSpeos المبنية جزئيًا داخل الصخر مع واجهةٍ من الطوب. المساحة تقارب 12 مترًا مربعًا، بثلاثة فضاءاتٍ رئيسية، وعلى الجدران بقايا نقوشٍ لإلهة النسر (موت) وكتاباتٍ تآكل بعضها.

لغة المدافن: 500 مومياء وشواهد ازدهار

الشمال من الحصن يكشف عن مدافن منحوّتة في المنحدرات الصخرية، تتنوع بين غرفٍ بسيطة متعددة الحجرات وأخرى مزينة بأقنعةٍ مذهبة ومناظر أوزيريس التقليدية.

الأثري محمد إبراهيم، مدير آثار الوادي الجديد، أكد لـ"مصراوي" أنّ عمليات تنقيبٍ جرى تنفيذها عبر بعثةٍ مشتركة من المجلس الأعلى للآثار وفريق “ألفا” الفرنسي بين عامي 1994 و1997 كشفت عن نحو 500 مومياء بحالةٍ جيدة، وأن مدافن أصحاب المكانة العالية اتسمت بأقنعةٍ مذهبة وأوانٍ زجاجية وأحجارٍ كريمة، هذه العناصر، بقدر ما تُجسّد جماليات الجنازة، تُشير كذلك إلى اقتصادٍ قوي وحِرفةٍ محليةٍ رفيعة في ذروة العصر الروماني.

الاستيطان المحلي والعمارة الطينية: بيتٌ يحرس الزمن

خارج الأسوار، حيث امتدت الحياة اليومية، تُحافظ بيوت اللبنة على طابعٍ عمراني بسيط لكنه شديد التكيف مع المناخ. بقايا المستوطنة المنتشرة حول الحصن تعكس مجتمعًا مدنيًا ملاصقًا للحامية، غرف تخزين، مواضع سكن، وممراتٌ تقود إلى الحقول وأنفاق الماء.

الحاج سيد حسنين طليب روى لـ"مصراوي" أنّ كثيرًا من هذه البيوت جرى تركها مع انتقال السكان، غير أنّ بعضها ما زال قائمًا، وفيه يتلمس الزائر قِوام حياةٍ كاملة: طوب لبنٍ سخيّ العزل، فتحات تهوية دقيقة، ومواد محلية تُعطي المعمار صلابته ودفئه معًا، هذه العمارة الشعبية ليست تفصيلاً هامشيًا؛ إنها المفصل الذي يربط بين المنظومة العسكرية والاقتصاد المحلي والقدرة على البقاء.

الطبيعة كعنصرٍ شريك: الاستشفاء وماء الكبريت

اللبخة ليست حجارةً فقط، بل هواءٌ وماء، محسن عبد المنعم، مدير عام الهيئة المصرية للتنشيط السياحي بالوادي الجديد، أوضح لـ"مصراوي" أنّ الموقع يمتلك مقوّماتٍ بيئية نادرة، من بينها مياهٌ كبريتية تخرج من بئر اللبخة، ارتبطت لدى الزائرين بمنافع صحية تتعلق بتنشيط الدورة الدموية وتخفيف آلام المفاصل، الأشجار المحيطة—اللبخ والإثل والأكاسيا والدوم—تُسهم في خلق مناخٍ محلي ألطف، وتُضيف بعدًا بصريًا يوازن صرامة الحجر بخشبٍ أخضر، ما يجعل الموقع مؤهلًا لمنتجٍ سياحي يمزج بين الثقافة والاستشفاء.

موقعٌ على درب التجارة: بين الشمال ودرب الأربعين

الأثري حسن جابر أكد لـ"مصراوي" أنّ اللبخة كانت ملتقى طرق التجارة بين الشمال والجنوب ودرب الأربعين إلى السودان، وأن تعدد الطبقات الأثرية من الفرعوني إلى الروماني فالعصور الحجرية المتناثرة شواهدها يعكس حركةً بشريةً واقتصاديةً مستمرة.

هذا الشكل والوضع، هو ما يُفسّر، في رأي جابر، اجتماع الحصن والمعبد والمقابر والبيوت والماء في رقعةٍ جغرافيةٍ واحدة: عقدة مواصلاتٍ تحتاج الحماية والتموين والطقس الروحي معًا.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان