إعلان

حب الأيس كريم والكتابة.. حكايات من طفولة نجيب محفوظ

10:04 م الأربعاء 11 ديسمبر 2019

الطفل جمال دياب يحاور الأديب العالمي نجيب محفوظ ع

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - شروق غنيم:

نجا من محاولة الاغتيال عام 1994، لكنه لم يسلم من آثارها. تركت ندبة على عُنق نجيب محفوظ، صارت أبواب منزله محاطة بأفراد الأمن، مر الوقت بثِقل، اهتزّت يده اليمنى، انقطع عن الكتابة، ابتعد عن هوايته المُحببة؛ السير. لكن ثمة تغيير حدث حينما دّق على أبوابه صبي بعمر العاشرة لإجراء حوار معه ونشره في المجلة المدرسية، أعاده لسيرته الأولى، هوايته التي حُرِم منها، ربما لم تتحرك أقدام الكاتب الكبير أبعد من منزله، لكن الطفل اصطحبه في جولة افتراضية، تجولا في عقله بحثًا عن طفولته، لعب الكُرة، الآيس كريم، السينما، وكيف وقع في غرام الكتابة.

في ذكرى ميلاد الأديب العالمي نجيب محفوظ، يعود مصراوي إلى الحوار الذي أُجري قبل 23 سنة، من الطفل جمال دياب آنذاك، للطفل الذي كان عليه نجيب محفوظ.

داخل منزل بالطابق الأول في حي العجوزة، أجرى الصغير جمال دياب الحوار في غرفة فسيحة جلس في انتظار دخول الأديب الكبير، رهبة تملكته، رغم صغر سنه لكنه يعرف قدر نجيب محفوظ "والدتي كانت بتقرأ لي قصصه القصيرة وبتحكي لي عن أهميته"، حاول تجاوز التوتر بقراءة الأسئلة التي كتبها باللغة العربية الفصحى، لكن ما من شيء فلح حتى كسر نجيب بنفسه القلق، استقبل الطفل بترحاب "قولي يا جمال أنت رايح سنة خمسة؟"، فيما ردد الصبي بتلقائية "أنا طفل لم أكمل بعد الـ 10 سنوات، مع ذلك أعرف جيدًا اسم الأستاذ نجيب محفوظ، باعتباره قد حقق في الرواية ما لم يحققه عربي من قبل، لذلك نريد كأطفال أن نتعرف على طفولة أديبنا الكبير".

ورقة تحمل ثلاثين سؤالًا، قلم، شريط تسجيل وكاميرا، كانت أدوات الصغير آنذاك، يطرح جمال أول سؤال كيف بدت طفولة نجيب محفوظ؟، يحّل الصمت، يغرق نجيب في ذاكرته، تتداعى المشاهد، يبدأ شريط الذكريات بشوارع منطقة الحُسين التي نشأ فيها، يرى نفسه صغيرًا بينما تمسك والدته بحنو يديه، يطوفا سويًا على الأضرحة الإسلامية والأماكن الأثرية، ترتسم ابتسامة عريض على وجهه إذ كانت تلك الجولات من "أسعد ما أذكره في طفولتي". تتدفق الذكريات على لسان الأديب الراحل "كان النظام بعد ما نشبع لعب في الشوارع والحواري، يودونا الكُتّاب"، يصمت بُرهة ثم يوضح للصغير "الكُتاّب ده اللي هو يقابل عندكم الروضة.. كنا نتعلم فيه فك الخط، ونحفظ بعض آيات القرآن".

يسير الأديب العالمي في دروب حياته الدراسية، يشعر بوخزة في يده، لازال يتذكر أثر الكُتّاب "كان زي السجن، لإنك قاعد تحت العصايا، أي غلطة أو هفوة تاخد على إيدك"، لكن الوضع تغيّر حينما بدأ الدراسة "من أولى ابتدائي ابتديت اجتهد وأحصل على قدر من التفوق كويس، استمر معايا في كل حياتي المدرسية"، أحّب حصتي الرياضيات واللغة العربية، فيما تكوّنت عقدة لديه من مادة الجغرافيا.

يتذكر نجيب ما جرى، لكنه يقع في الضحك قبل أن يتلو الواقعة، كان تلميذًا في الصف الدراسي الأول، طلب منه مدرس الجغرافيا استخراج واحة سيوة من الخريطة الكبيرة التي أمامه، تلعثم الصغير، تاهت عينيه في الخريطة "فجأة المدرس رقعني بالعصايا في كوعي.. الحقيقة العصايا دي خلت بيني والجغرافيا تار".

الاهتمام بالدراسة كانت أولويات الأديب الراحل، حافظ على تفوقه، لكنه أيضًا لم يُحرَم من ممارسة هواياته رغم تعددها، فرض نظام صارم، جدول أسبوعي يلتزم به، من لعب كرة، مسرح وسينما، هكذا بدأت علاقته مع الالتزام بالنظام، لم تفسد حياته الدراسية مثل باقي أقرانه "الكورة بلعتهم.. إنما أنا مفيش حاجة بلعتني. أنا اللي ببلع". يقول في الحوار المُسجل قبل 23 عامًا.

ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ سؤال يتلقاه كل طفل، تملّك الفضول من نفس جمال، ما حلم طفولة الأديب الكبير؟ فتأتيه الإجابة دون تردد "والله أنا جه عليا وقت كنت بحلم زي أغلب الأطفال بالطب والهندسة، خصوصًا كنت متفوق فيهم، لكن ابتدا حلمي يتركز في إني أكون كاتب من وأنا 14 سنة.كاتب إيه معرفش؟ عشان كدة روحت درست الفلسفة".

شكّلت القراءة والكتابة محور حياة نجيب منذ صغره، تعلّق بالكتب التي قرأها، لذا حاول محاكاتها، وحينما بدأت رحلته في القراءة بعالم القصص البوليسية "كنت أكتب ملخص ليها وكإني اللي مألفها، ولما قريت الأيام لطه حسين ألفت حاجة اسمها الأعوام وعملت ترجمة لحياتي مع والدي ووالدتي"، تنتهي الإجابة لكن تبدأ معها وصلة ضحك من الطرفين.

يحكي نجيب بينما لا يغادره ذلك الشعور "وجود القلم في إيدي كان شيء مفرح جدًا بالنسبة لي"، يباغته الصغير "وما هو شعورك وأنت لا تكتب الآن؟" صمت ثقيل يحل على أجواء الحوار، تغيب طاقة البهجة التي طغت ويرد الأديب "الحقيقة هي فترة حوالي السنتين دول أشد شديدة عليا. أنا اتحرمت من القراية والكتابة"، تسود الكآبة قبل أن يحوّل جمال دفة الحديث إلى الطفولة مرة أخرى.

1

صورة صُممت بأحد برامج تحليل البيانات تضم روايات نجيب محفوظ

قرش واحد كان المصروف اليومي للطفل نجيب محفوظ "كنت أجيب بيه من الشارع ملبن وشيكولاتة"، رغم ذلك عرف الادخار من أجل السينما، كان يُعادل تذكرتها آنذاك قيمة مصروفه بالكامل "فكنت أتّك على روحي عشان بس أروح السينما".

يذوب قلق جمال مع كل ضحكة من الأديب العالمي بعد الإجابة، غير أن التوتر لمسه حين بدت أمارات التعب على الأديب الراحل، حاول أن يُسرِع من وتيرة الأسئلة حتى يحصل على الإجابات كلها، يسأل: "ما هو أكثر شخص كنت تحبه في فترة الطفولة؟ زي المثل الأعلى؟" يرد نجيب بينما تلمع عينيه، يعود بالذاكرة لبطل جيله "بطل جيلنا كله سعد زغلول طبعًا".. وهل في طفولتك كنت تحلم بلقاء أحد من العظماء والكبار؟.. "لا مكنتش تخطر على بالي، حتى سعد زغلول مشافتوش عيني".

قرابة 75 عامًا تفصل بين عمري جمال ونجيب، يسأله الأول عن الفرق بين جيله في الطفولة والجيل الحالي "فرق كبير جدًا. أنت بتتولد تطلع في بيت في تلفزيون التلفزيون، بتتمتع فيه بقصص وموسيقى ومناظر حلوة وأخبار عن العالم، فبيبقى الطفل عنده معلومات كبيرة، لكن أنا في سن 10 كنت أقل منك في المعلومات والخبرة يمكن 100 مرة. الفرصة الكبيرة اللي ادتهالي والدتي وخبرتي كلها إني بزور أضرحة وأشوف أثار إنما التلفزيون بيوريك العالم كله"، لكنه لا يفوّت أن ينصح الأطفال في كل زمان "مهم أوي إن الواحد يحدد لنفسه هدف من الحياة في وقت مبكر على قدر الاستطاعة".

امتدت المقابلة لنصف ساعة، خاض خلالها نجيب في خبراته المتراكمة عبر السنوات، بينما جمال ظفر بتجربة لن تعوض، بعفوية ترك جمال التسجيل مفتوحًا رغم انتهاء أسئلته، أخذ يُحضر عدسته لالتقاط صورة بنفسه للأديب الكبير لنشرها برفقة الحوار، تمر ثواني فيسأل نجيب "هاه خلاص؟"، ليخبره الطفل "مستني الفلاش بس"، ثواني أخرى ثم يلتقط الصورة التي عُلقت برفقة حواره مع الأديب العالمي في مجلته المدرسية "أيام"، والتي أرفقها بكتابة بخط يده لأبرز العناوين.

2

أمام جدارية المدرسة بالطابق الأول يمر الأطفال بسرعة غير أنهم يتوقفوا أمام المجلة لقراءة ما بها، تلمس كلمات الأديب قلوبهم، بينما لم تغادر تلك المشاعر نفس جمال رغم مرور 23 عامًا على الحدث، لازال يحتفظ ابن الـ33 عامًا بالعدد داخل منزله، يفخر بحواره مع الأديب الراحل "قابلته قبل ما يكون قدوتي"، لا تزال تتردد أجواء الحوار بداخله، ورغم أنه ألقى ثلاثين سؤالًا على نجيب إلا أنه يتمنى لو أُتيحت له الفرصة في عمر أكبر"اتكوّن عندي أسئلة أكتر كان نفسي أسمع إجاباتها منه".

فيديو قد يعجبك: