"البشندي".. حكاية قرية جمعت رمسيس التاسع بصناعة الحرير فى الوادي الجديد
كتب : محمد الباريسي
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
في قلب واحة الداخلة بمحافظة الوادي الجديد، وتحديداً داخل مركز بلاط، تقف قرية "البشندي" كشاهد حي على عبقرية الإنسان المصري في تطويع الصحراء وصناعة التاريخ. هنا، حيث لا تفصلك سوى خطوات قليلة بين معبد فرعوني ومصنع للسجاد اليدوي يُصدر إنتاجه إلى قلب أوروبا، تتجسد قصة نجاح فريدة حولت قرية صغيرة إلى أيقونة عالمية للتنمية المستدامة، بعدما جرى إدراجها رسمياً ضمن برنامج تطوير القرى السياحية لمنظمة السياحة العالمية لعام 2026.
جذور ضاربة في التاريخ
تبدأ حكاية البشندي منذ فجر التاريخ، حيث كشف الخبير الأثري بهجت إبراهيم، مدير الآثار السابق بالوادي الجديد لـ "مصراوي" أن القرية بُنيت على أطلال حضارات متعاقبة. فمنذ عام 2420 قبل الميلاد، شهدت المنطقة وجوداً بشرياً قوياً تجلى في المقابر والمصاطب الأثرية التي تعود للأسرة السادسة.
ويؤكد الأثري محمد إبراهيم، مدير آثار الوادي الجديد، في تصريحات خاصة لـ "مصراوي"، أن القرية تضم كنزاً معمارياً فريداً؛ حيث جرى تشييد مساكنها قديماً على الطراز الفرعوني باستخدام "الطوب الأخضر"، وهو أسلوب بناء ممتد من الأسرة التاسعة عشرة.
ويضيف إبراهيم: "يتوسط القرية معبد أثري يعود تاريخه إلى عهد الملك رمسيس التاسع، ما يثبت أن الواحات كانت مراكز تجارية وحضارية كبرى على طريق الذهب والتوابل".
وتابع قائلا : " مع مرور الزمن، ترك الرومان بصمتهم في "مقبرة كتيانوس"، حاكم المنطقة في القرن الأول الميلادي، وتعد هذه المقبرة "كتاباً مصوراً"؛ إذ تحوي نقوشاً جدارية نادرة تجسد رحلة الموتى وعمليات التحنيط والمحاكمة أمام "أوزيريس"، في مزيج فني يعكس تلاقي الحضارتين المصرية والرومانية.
من الباشا الهندي إلى الشيخ البشندي
لا يتوقف سحر القرية عند الآثار، بل يمتد إلى موروثها الشعبي، ويروي أحمد مسعود، خبير التراث الواحاتي بالوادي الجديد، لـ "مصراوي" أن اسم القرية يعود إلى "محمد الباشا هندي"، وهو والٍ هندي مر بالمنطقة قديماً واعتنق الإسلام وبنى مسجداً بها، ومع الوقت جرى تحريف الاسم ليصبح "البشندي".
وتابع: " إنه في العصر العثماني، برز اسم الشيخ البشندي، الذي بُني ضريحه باستخدام أحجار من المعبد الفرعوني القديم، في نموذج فريد لإعادة التدوير التاريخي"، هذا المقام لم يكن مكاناً للتبرك فحسب، بل جرى استخدامه كـ "كُتّاب" لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية لأجيال متعاقبة، ليكون حلقة الوصل بين التاريخ القديم والهوية الإسلامية للقرية.
ملحمة الـ 5 قروش
بعيداً عن أطلال الماضي، خاض أهالي البشندي معركة حديثة ضد الفقر والبطالة بدأت فصولها في مطلع الثمانينيات، ففي سبتمبر 1982، جرى استقبال بعثة من كلية الفنون التطبيقية برئاسة الدكتور حماد عبد الله حماد، لطرح فكرة استغلال خامات البيئة في صناعة الكليم اليدوي.
وفي أكتوبر 1983، بدأت الخطوة التنفيذية الكبرى؛ حيث جرى تأسيس "جمعية تنمية المجتمع المحلي" بالجهود الذاتية، وبحسب تصريحات محمود عبد ربه، خبير التراث الواحاتي، لـ "مصراوي"، فإن الأهالي جمعوا "5 قروش" من كل منزل لتأسيس مقر صغير للمشروع، محاكاةً لتقاليد قديمة في التكاتف الاجتماعي.
وفي يناير 1984، جرى استقبال أولى المعدات التي شملت 3 أنوال و300 كيلوجرام من الصوف، وبدأ أطفال وشباب القرية في تعلم فنون الحياكة. ولم تمر سوى أشهر قليلة، حتى جرى في يونيو 1984 بيع أولى القطع المنتجة، ثم جرى تنظيم أول معرض رسمي بنقابة المهندسين بالخارجة في أكتوبر من العام نفسه، وهو الحدث الذي نال إعجاباً واسعاً ووثقته عدسات التليفزيون آنذاك كبداية لانطلاقة عالمية.
من الواحات لمتاحف باريس وروما
لم تكتفِ البشندي بالسوق المحلي، بل شق "كليم البشندي" طريقه إلى المتاحف العالمية في باريس وروما والولايات المتحدة كمقتنيات فنية دائمة.
ويؤكد عبد السلام سنوسي، مدير جمعية تنمية المجتمع بالقرية، في حديثه لـ "مصراوي"، أن هذا النجاح جرى بدعم من جهات دولية؛ حيث جرى الحصول على منح من السفارات الكندية والألمانية لتوسعة أقسام السجاد والصباغة والغزل.
ويضيف سنوسي: "لقد تحولت البشندي من غرفة تدريب صغيرة إلى منظومة تضم أكثر من 20 مشروعاً إنتاجياً، تشمل مصانع السجاد، ومزارع للأغنام والمواشي، ومحطات لتنقية المياه، بل وأطلقنا أول شركة مساهمة من الأهالي لزراعة 200 فدان ضمن مبادرة الظهير الزراعي، بدعم مباشر من اللواء دكتور محمد الزملوط محافظ الوادي الجديد".
ويختتم عبد السلام سنوسي تصريحاته لـ "مصراوي" قائلاً: "نحن قرية صغيرة في المساحة، لكننا نملك روحاً عظيمة؛ ما حققناه ليس مجرد تجارة، بل قصة كفاح أبطالها النساء قبل الرجال، وشباب قرروا أن يصنعوا كرامتهم بأيديهم من خيوط الصوف والحرير".
مستقبل مشرق على خريطة السياحة العالمية
قال محسن عبد المنعم يونس، مدير الهيئة المصرية للتنشيط السياحي بالوادي الجديد، لمصراوي: "اليوم، تظهر البشندي كقرية نموذجية خالية من البطالة، بشوارعها المفروشة بالرمال الصفراء ومنازلها المبنية بالطوب اللبن التي تمنحها طابعاً سياحياً فريداً، ومع إدراجها في خطة منظمة السياحة العالمية لعام 2026، يستعد الأهالي لتحويل قريتهم إلى "متحف حي" يجمع بين عبق رمسيس التاسع وحداثة السجاد العالمي".