حكاية تأسيس محافظة الوادي الجديد.. أسرار البدايات المدفونة في الرمال -صور
كتب : مصراوي
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
الوادي الجديد – محمد الباريسي:
في 25 ديسمبر 1958، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر عن فكرة "وادي جديد موازٍ لوادي النيل"، لتنطلق بعدها رحلة لم تكن مجرد مشروع إداري، بل كانت حالة تعبئة وطنية غير مسبوقة، وفي 3 أكتوبر 1959؛ وصلت أولى قوافل التعمير التي لم تحمل معدات فحسب، بل حملت رؤية تحويل الصحراء من مجرد هامش جغرافي إلى امتداد طبيعي لوادي النيل، وتشكل محافظة الوادي الجديد كما نعرفها اليوم.
هذا التقرير، يعيد الحياة إلى حكاية الميلاد الصعب للمحافظة، بدءًا من تكليف المشير عبد الحكيم عامر بإعداد رؤية للتنمية عام 1958، مروراً بـخطاب بورسعيد التاريخي للرئيس جمال عبد الناصر، وصولاً إلى بناء قاعدة بيانات علمية غير مسبوقة وتأسيس المؤسسات العملاقة لـ"تعمير الصحاري".
فى بداية حديثه مع "مصراوي"، أكد جامع التراث الواحاتي والمتخصص في تاريخ الواحات محمود عبد ربه، أنّ تاريخ الواحات المصرية أقدم من أن يُختزل في قرن أو قرنين؛ فهو يمتد إلى ما قبل التاريخ، وتتعاقب عليه شواهد الحضارات الفرعونية والفارسية والرومانية والقبطية والإسلامية المنتشرة في ربوع المحافظة ومراكزها الخمسة، ومع ذلك، فإن التحوّل الإداري الحديث بدأ مبكرًا حين جرى إنشاء "محافظة الصحراء الجنوبية" عام 1917 بضم واحتي الخارجة والداخلة في وحدة واحدة، قبل أن تُعرف لاحقًا باسم الوادي الجديد.
أكد محمود، أنّ الخطوة الإدارية الأولى عام 1917 لم تكن سوى إطار تنظيمي لم يُفعّل مشروعًا عمرانيًا شاملًا بعد، إذ ظلّت المساحة الشاسعة بلا برامج تنموية منهجية، بينما ظلّت الواحات قائمة على زراعات الأهالي التقليدية وزراعة النخيل ونظم ريّ متوارثة منذ العصور القديمة، ومع اتساع سؤال التنمية في مصر منتصف القرن العشرين، برزت الحاجة إلى رؤية تتعامل مع الصحراء باعتبارها امتدادًا طبيعيًا للوادي، لا هامشًا جغرافيًا له، في هذا السياق، كُلّف المشير عبد الحكيم عامر عام 1958 بإعداد رؤية واسعة لآفاق التنمية في الصحراء المصرية، تكليفًا فتح الباب أمام تشكيل لجنة متخصصة تضع الأساس العلمي والمؤسسي للمشروع.
بحسب ما أكده محمود عبد ربه، أكد أن اللواء أحمد رفيق النجار، مدير المشروعات السابق بهيئة تعمير الصحاري عندما جاء للوادي الجديد أكد أنه قد شكّل المشير عامر لجنة حملت اسم "لجنة تعمير الصحاري"، برئاسة اللواء حسن محمد صبيح، مدير سلاح المهندسين آنذاك، وضمّت في عضويتها مقدم محمد وفيق عبد الرحمن للتخطيط، والمقدم حسين إدريس للمياه الجوفية، والمقدم محمود حمدي أباظة للميكانيكا والكهرباء، بينما تولّى النجار نفسه مسؤولية المشروعات. وتابع محمود، قائلا إنه جرى الاتفاق من البداية على أن تكون الدراسات شاملة لكل الصحارى المصرية، وأن تُبنى على مقابلات مباشرة مع العاملين في تلك المناطق وأهلها، إلى جانب تجميع المراجع العلمية المتاحة عن الصحراء، لم تقتصر المهمة على جمع المعلومات، بل جرى بناء قاعدة بيانات بأسلوب علمي، شمل التصوير الجوي، ورسم الخرائط، ومسحًا جيولوجيًا، ودراسة التركيبة السكانية والأنشطة القائمة، وخاصة زراعات الأهالي والنخيل ونظم الريّ المتوارثة.
بعد اكتمال التصوّر الأولي، رُفع التقرير إلى القيادة السياسية، ويكشف محمود عبد ربه، أنّ المشير عامر قدّم التقرير للرئيس جمال عبد الناصر، فجاء ردّ الفعل سريعًا وواضحًا في خطاب بورسعيد يوم 25 ديسمبر 1958، حيث أعلن الرئيس عن بدء إنشاء وادٍ جديد موازٍ لوادي النيل، منذ تلك اللحظة، اتخذ العمل في الوادي الجديد مسارين متوازيين: أولهما البناء وفق ما تتيحه المعلومات المتاحة، وثانيهما الاستمرار في تدعيم قاعدة البيانات العلمية لضمان أن تتحول الرؤية إلى برامج قابلة للتنفيذ على الأرض».
تابع الحاج إبراهيم خليل، مدير عام الثقافة الجماهيرية الأسبق ومتخصص رفي التراث الواحاتي وأحد شهود العيان على هذه الحقبة، أنه على وقع الخطاب، توالى البناء المؤسسي حيث جرى إصدار قرار رئيس الجمهورية رقم 572 لسنة 1959 بإنشاء الهيئة العامة لتعمير الصحاري، ثم صدر قرار وزيري الحربية والزراعة رقم 145 لسنة 1960 باللائحة التنفيذية للقانون 124 لسنة 1958، وتضمّنت أن تتولى الهيئة تلقّي طلبات الشراء والتأجير للأراضي الصحراوية، وإنجاز إجراءاتها، ووضع الشروط الكفيلة بضمان استصلاح تلك الأراضي وعمارتها.
وقال إبراهيم، إنه في عام 1961 صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 1515 بإنشاء «المؤسسة العامة لتعمير الصحاري»، أعقبه القرار الجمهوري رقم 3317 لسنة 1962 بإنشاء المؤسسة المصرية العامة لتعمير الصحاري وإلحاقها بوزارة الإصلاح الزراعي وإصلاح الأراضي، ونصت المادة العشرون من القرار الأخير على حلول المؤسسة الجديدة محل القديمة في الحقوق والالتزامات، فيما حدّدت المادة الثانية اختصاصاتها، ومنها حصر الأراضي الصحراوية القابلة للإصلاح، ورسم السياسة العامة لاستصلاحها وزراعتها واستغلالها وتعميرها والتصرف فيها، ووضع البرامج اللازمة لذلك، أما المادة الثالثة (فقرة 1) فقد حدّدت رأس المال بأنه يتكوّن من الأموال الثابتة والمنقولة المملوكة للمؤسسة، إضافة إلى الأموال التي تديرها وتستغلها.
في 3 أكتوبر 1959 وصلت أولى قوافل التعمير إلى الوادي الجديد، لحظة باتت لاحقًا عيدًا قوميًا للمحافظة، يؤكد إبراهيم خليل، قائلا لمصراوي: "كانت بداية عملية، لم تكن احتفالًا رمزيًا؛ القوافل حملت ما يلزم من معدات ومسّاحين ومهندسين، وجرى الشروع فورًا في أعمال فتح الطرق، وتجهيز مواقع الآبار، ووضع لبنات المدن الجديدة والهدف كان واضحًا هو نقل التنمية من خانة الشعارات إلى جدول أعمال يومي على الأرض".
ومع انطلاق المشروعات، برزت فلسفة معمارية تراعي خصائص المناخ الصحراوي، ووفق ما قاله النائب البرلماني السابق سعد نجاتي، عضو مجلس النواب ونجل عمدة واحة الخارجة وشيخ نواب المحافظة، أنه جرى تشييد منشآت حكومية ووحدات سكنية بتصميمات تتناسب مع مساقط الهواء واتجاهات الواجهة البحرية لضمان التهوية الجيدة، مع اتساع المساحات الداخلية والفواصل بين المباني لمرور الهواء. ومن أمثلة ذلك مستشفيَا الخارجة ومُوط، ومكتب بريد الخارجة ومُوط، ومسجد ناصر، ومبنى المحافظة القديم، وقد جرى تأسيس عدد منها عام 1964، في وقتٍ جرى فيه توسيع شبكات الطرق بعرضٍ كبير يحدّ من العواصف الترابية، مثل شارع جمال عبد الناصر وشارع النبوي المهندس في الخارجة، وشارع الوادي الجديد في مُوط بالداخلة.
غير أنّ مسار التعمير اصطدم بسياق إقليمي بالغ القسوة بعد الخامس من يونيو 1967، يوضح نجاتي أنه حين دقّت ساعة الواجب، جرى إعلان التعبئة العامة، وتحولت مؤسسة تعمير الصحاري بكامل طاقتها البشرية والمعدات إلى روافد تسند المجهود الحربي، جرى توزيع العاملين على مواقع متعددة، وتقديم معدات التعمير لخدمة إنشاءات تحتاجها الدولة وقواتها المسلحة.
ويضيف: لم يكن ذلك انحرافًا عن الهدف بل تأكيدًا له؛ حماية الأرض مقدّمة على عمارتها، حتى عادت الراية خفّاقة مع نصر أكتوبر 1973، وبعد انتهاء الحرب، عادت المشروعات إلى وتيرتها، واستؤنفت أعمال فتح الطرق، وتجهيز الآبار، واستكمال المرافق في مدن الواحات.
في السنوات التالية، وُضعت برامج لاستكمال الخدمات الأساسية وتثبيت السكان في مدن وقرى رحبة، وبحسب تصريحات المهندس شوقي القاضي، رئيس جهاز تعمير الوادي الجديد الأسبق، وأحد رواد التعمير بالمحافظة لمصراوي، أنه قد شملت الأولويات استكمال شبكات الطرق الداخلية، وتدعيم منظومات المياه الجوفية، وتحسين أنظمة الريّ مع الحفاظ على الخبرات التقليدية للأهالي.
ويصف القاضي، أنه جرى توسيع ما بدأناه قبل الحرب؛ كانت الفكرة أن تبقى الصحراء قابلة للعيش الكريم، لا مجرد مشاريع ورقية، كما أنّ المؤسسة واصلت دورها في استصلاح الأراضي البور وزيادة رقعة النخيل، مع تعزيز دور المجتمعات المحلية في إدارة الموارد، في إطار سياسات تحافظ على البيئة وتراعي خصوصية المكان.