إعلان

رسومات مذهلة ومعتقدات مزدوجة في مقبرة عمرها 2000 عام -صور

كتب : مصراوي

03:52 م 31/07/2025

تابعنا على

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

في قلب الصحراء الغربية، وعلى بُعد خمسة كيلومترات فقط من قرية القصر التاريخية بواحة الداخلة في محافظة الوادي الجديد، تقف "مقابر المزوقة" كتحفة أثرية نادرة تخطف الأنفاس بألوانها الزاهية ونقوشها الأخّاذة التي لا تزال تنبض بالحياة بعد نحو ألفي عام على إنشائها.

وعلى الرغم من كونها واحدة من أجمل وأغنى المواقع الأثرية في مصر، إلا أن مقابر المزوقة لا تحظى بالاهتمام الكافي إعلاميًا وسياحيًا، لتبقى بمثابة كنز دفين في أعماق الواحات، تروي قصة التقاء الحضارات والفنون والمعتقدات بين مصر الفرعونية والعصر الروماني.


بداية الحكاية

بحسب ما كشف عنه الأثري محمد إبراهيم مدير الآثار المصرية بالوادي الجديد لـ"مصراوي"، فقد جرى اكتشاف مقابر المزوقة عام 1973 على يد عالم الآثار المصري الكبير الدكتور أحمد فخري، الذي وصفها آنذاك بأنها من أبرز الأدلة على تطور العمارة والفنون في مصر القديمة خلال العصر الروماني.

وتقع المقابر ضمن منطقة تُعرف باسم "تبة المزوقة"، وهي تضم مجموعة من التلال الأثرية، إلا أن تميزها يعود إلى زخارفها الفريدة التي تجمع بين تقنيات الفنان المصري القديم والأصباغ المعدنية التي لم تفقد بريقها رغم مرور القرون.

بادي أوزير وبادي باستت.. كاهنان خُلّدت ذكراهما في الطفلة

تضم مقابر المزوقة مقبرتين رئيسيتين، الأولى تُعرف باسم مقبرة "بادي أوزير"، وتعني اسمه "هبة المعبود أوزير"، وقد كان كاهنًا في تلك الفترة. تتكوّن المقبرة من حجرتين متداخلتين، طليتا بطبقة من الجص، وعليها رسومات تفصيلية تمثل مشاهد الحساب، والحصاد، والتحنيط، فضلًا عن الأبراج السماوية المعروفة بـ"الزودياك".

يقول الخبير الأثري بهجت أبو ديرة، مدير الآثار بالوادي الجديد السابق، إن المقبرة الثانية تعود إلى كاهن يُدعى "بادي باستت"، وتعني "هبة الإلهة باستت"، وهي تتكوّن من حجرة واحدة منحوتة في الطفلة – نوع من الطين – وقد نُقشت جدرانها بمناظر ملونة تمثل موسم حصاد القمح وعددًا من الآلهة المصرية مثل إيزيس ونفتيس وأنوبيس.


جمال بصري متكامل: ألوان زاهية تقاوم الزمن

ما يميّز المقبرتين عن غيرهما من مقابر واحة الداخلة، وفقًا لما أكد عليه الدكتور محمود محمد، أحد مسؤولي منطقة آثار الوادي الجديد، هو بقاء الألوان الأصلية المستخدمة في الزخارف بحالة مذهلة رغم مرور نحو 2000 عام على إنشائها.

وقال محمود في تصريحات خاصة لـ"مصراوي"، إن "ألوان الأكاسيد التي استخدمها الفنان المصري القديم، إلى جانب زلال البيض، هي السر في بقاء الرسوم بهذه القوة والبهاء. الأحمر، الأزرق، الأخضر، الأصفر.. تطل كأنها رُسمت بالأمس".

وأضاف أن جودة الأصباغ وطريقة تثبيتها على الجدران تعكس وعيًا متقدمًا بعلم الكيمياء والمعادن، بما يوازي أرقى تقنيات الدهانات الحديثة.


الطبيعة والمعبودات.. رسائل خفية بين السطور

حين يدخل الزائر إلى المقبرة، يلحظ فورًا وجود توازن فني بين مناظر الحياة اليومية، والطبيعة، والطقوس الجنائزية، والمعبودات الدينية، في مشهد يربط الأرض بالسماء.

وتظهر على الجدران نقوش لأشجار النخيل والعنب، ومناظر لحقول القمح، وطيور محلّقة، ما يعكس ارتباط أهل الوادي بالزراعة والبيئة. كما توجد رسومات فلكية دقيقة تمثل الأبراج السماوية، في انعكاس واضح لاهتمام المصريين القدماء بعلم الفلك.

في الوقت ذاته، تظهر شخصيات مثل أوزوريس، إيزيس، نفتيس، أنوبيس، وأبناء حورس الأربعة: إمستي، حابي، قبح سنواف، وداوموت إف، والذين ارتبطت أسماؤهم بحفظ الأعضاء البشرية بعد التحنيط.


مزيج بين عقيدتين.. إبداع ديني وفني

تعتبر مقابر المزوقة مثالًا نادرًا على التقاء عقيدتين: الفرعونية والرومانية، حيث اختلطت الرموز الدينية المصرية مع التأثيرات الرومانية واليونانية التي بدأت تغزو مصر في القرنين الأول والثاني الميلاديين.

ويقول محسن عبد المنعم الصايغ، مدير الهيئة الممصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد لـ"مصراوي"، إن "المزوقة تجسّد لحظة انتقال حضاري، لم تُمحَ فيها الهويات بل تداخلت، فظهرت إيزيس إلى جانب تماثيل رومانية، واحتُفظ بالزودياك الفلكي كجزء من العقيدة الجنائزية الجديدة، هذا التداخل الحضاري والفني منح المزوقة تفردًا لا يوجد في مقابر أخرى بمصر، حيث لا تزال تحتفظ بجمالها وفرادتها بعيدًا عن الزخم السياحي والإعلامي".


الزودياك على السقف.. وعلم الفلك من قلب الصحراء

من أبرز ما تحتضنه مقبرة بادي أوزير، هو وجود "زودياك" مرسوم بدقة لافتة على سقف المقبرة، يتضمن الأبراج السماوية المعروفة مثل السرطان، القوس، الجدي وغيرها، ويُعد هذا المشهد أحد أندر التمثيلات الفلكية في المقابر المصرية خارج سقارة ودندرة.

ووفقًا لما صرح به محسن عبد المنعم الصايغ، فإن "وجود الزودياك في هذه المقبرة يشير إلى مدى تطور المعرفة الفلكية لدى المصريين القدماء، ويمنح المزوقة ميزة علمية بجانب أهميتها الفنية والدينية".

أعمال الحفر والاكتشافات الحديثة

أثناء أعمال الحفائر التي أجرتها هيئة الآثار المصرية، جرى العثور على عدد من القطع الأثرية النادرة، من بينها تماثيل مذهبة لطائر البا والصقر، وأدوات زجاجية، وأدوات كتابية، وعدد من العملات البرونزية، بالإضافة إلى كباش محنطة، جرى عرضها لاحقًا بمتحف آثار الوادي الجديد.

ويؤكد محسن، أن هذه القطع تبرز دور المزوقة كمركز جنائزي متكامل، يدمج بين الطقوس، العلم، الرمزية، والجمال.

موقع استثنائي لا يعرفه كثيرون

تقع مقابر المزوقة جنوب غرب قرية القصر الإسلامية بحوالي 6 كيلومترات، وإلى الشمال الشرقي من معبد دير الحجر بحوالي 2 كيلومتر، ما يجعلها قريبة من مجموعة من المعالم الأثرية المهمة التي لا تزال قيد التوثيق والدراسة.

ورغم بعدها عن المسارات السياحية المعروفة، إلا أن زيارتها تُعد تجربة ثرية لكل من يهتم بالتاريخ أو الفنون أو علم الفلك، حيث يأخذ الزائر جولة بصرية بين حضارتين ونقوش لا تقدر بثمن.

ترميم مستمر ومطالب بالتوثيق العالمي

خلال السنوات الأخيرة، أطلقت وزارة السياحة والآثار مشروعًا لترميم بعض مقابر واحة الداخلة، من بينها المزوقة ومعبد دير الحجر، وذلك تحت إشراف مرممين مصريين متخصصين، وأسفرت الجهود عن تثبيت الألوان، وترميم النقوش، وتأمين الموقع من العوامل الجوية.

ودعا عدد من الباحثين الجهات المعنية إلى ترشيح منطقة المزوقة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو، مؤكدين أن ما تحتويه من ثراء بصري وديني وفلكي يجعلها مؤهلة بجدارة.

"جِنان بعيدة" تعود للحياة

في كتابه "الواحات المصرية.. جنان مصر البعيدة"، وصف المؤرخ محمد التداوي منطقة الداخلة بأنها "مخزن الأسرار"، وأكد على أهمية المزوقة كأحد أبرز مواقع التداخل الديني في العصور المتأخرة.

وأكد محسن، أنه قد جاء في مقدمة الكتاب التي كتبها الراحل الدكتور عبد الحليم نور الدين، أن "المزوقة ليست مجرد مقبرة، بل رواية بصرية متكاملة تروي كيف فهم المصريون الحياة والموت والكون".

كنز ينتظر من يكتشفه

تبقى مقابر المزوقة واحدة من أكثر المواقع الأثرية المظلومة رغم روعتها، تحمل في جدرانها قصص الحب والولاء، والطقوس والمعتقدات، والفن والعلم، وسط ألوان تأبى أن تنطفئ، ومن يخطو خطواته الأولى داخلها، يعلم أنه لا يزور مجرد مقبرة، بل يعبر إلى زمنٍ آخر، حيث تُنقش الروح بالألوان.


فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان