إعلان

شهود بوتين.. أحادية الشهادة المنقوصة

شهود بوتين.. أحادية الشهادة المنقوصة

د. أمل الجمل
09:00 م السبت 18 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أعترف بأنني من المؤيدين لرأي الكاتب المصري لويس عوض في اعتقاده بأنه ربما يكون من حق المبدع أن يحمي موهبته من الصدام المباشر مع السلطة، حتى يتمكن من الاستمرار في إبداعه.. لذلك ربما يمكن تفسير انحيازي لسينما المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف، رغم ما يُشاع عن علاقته بالرؤساء ومنهم يلتسين وبوتين وميدفيديف، فالفيصل عندي ليس تلك العلاقات والقرب والمودة وتلك التيسيرات التي ينالها جراء ذلك الرضا الرئاسي، ولكن الفيصل هو مضمون تلك السينما التي يُنتجها، وهل هي سينما مراوغة ترويجية تجميلية لسياسات هؤلاء الحكام، وتضع أقنعة لإخفاء فسادها، أم أنها سينما تبحث في الأسباب وتعيد قراءة التاريخ، وتبطن بداخلها- بدهاء فني- أفكارا ووعيا ومتعة فنية وفكرية أم لا؟

لذلك أيضاً لم أهتم كثيرا بالحملة الهجومية الذي تعرض لها ميخالكوف عام ٢٠١٠ عندما تم اختيار فيلمه بمهرجان كان شمس الخديعة ٢، إذ يومها سبقه إلى المهرجان الكاني بيانٌ هجومي من بعض السينمائيين الروس يتهمونه بالسيطرة علي نقابة السينمائيين ودعم صندوق الدولة لصالح أفلامه واتهامات آخرى مطالبين بمنع عرض فيلمه بالمسابقة الرسمية.

بالنسبة لي كانت فكرة محاولة منع عرض فيلم سينمائي عندما تُطرح من مجموعة تدعي أنها مثقفة، وتزعم أنها سينمائية- حتى لو كانت معارضة- فهي في حد ذاتها بحاجة للتأمل والحذر من تلك المجموعة المطالبة بالمنع، لأنها تشي بأسلوب فاشي لا يقتصر فقط على ممارسة الرقابة والمصادرة. ما أفهمه أن الرد على الاختلاف في المواقف السياسية- سواء من المؤيدين أو المعارضين للسلطة- يتم من خلال آراء معلنة تدين وتكشف انتهازية مواقف بعينها، أو من خلال صناعة الأفلام ترد علي تلك الأفلام وصناعها المقربين من السلطة، وليس من بين تلك الوسائل المنع، لأن الأخير يعني أنك تتبع نفس أسلوب الخصم الذي تنتقده وتهاجمه، وهذا بدوره يعني أن تلك المجموعة عندما تجلس في السلطة ستكون نسخة طبق الأصل من الشخصيات والحكام التي انتقدتها.

مصمم الحملة الدعائية

الأفكار السابقة جالت بخاطري عقب مشاهدتي الفيلم الوثائقي شهود بوتين الذي عرض مؤخراً بمهرجان كارلوفي فاري الثالث والخمسين- ضمن مجموعة أخرى من الوثائقيات المهمة داخل المسابقة- ونال الجائزة الكبرى بمسابقة الوثائقيات. وهو من توقيع المخرج الروسي- الأوكراني المولد- فيتالي مانسكي الذي يعيش في لاتفيا كمنفي اختياري له، وهو الذي كان يعمل مخرجاً بمحطة التليفزيون الحكومي الروسي، وكان يصنع للدولة أفلاماً وثائقية لعدة سنوات- لم يخبرنا عددها- وهذه الأفلام التليفزيونية أتاحت له فرصة الاقتراب من رجال السياسة والحكم في روسيا ومنحته فرصة ذهبية لا تُتاح إلا للصفوة ونخبة قليلة جداً وهي الدخول إلى الكرملين، وتصوير بوريس يلتسين.

الأهم مما سبق أن فيتالي مانسكي مخرج شهود بوتين شارك في الحملة الدعائية التي تم إطلاقها عندما تم ترشيح فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا في نهاية عام ١٩٩٩ وذلك عندما قرر العجوز المترنح يلتسين التخلي عن سدة الحكم والخروج الآمن من دون محاكمة أو سجن، أو مطاردة ليس فقط بسبب فشله في أي إصلاح للبلاد علي مدار عقدين، وإنما في توريط البلاد في كم من الفساد والانهيار الاقتصادي والذي دفع ثمنه المواطن الروسي، من دون أن ننسي قضايا الحريات وتكبيل الديمقراطية.

ومن ثم كانت خطة الخروج الآمن أن يقوم يلتسين بترشيح ودعم أحد الموالين له للرئاسة، ووقع الاختيار على بوتين القادم من المخابرات والذي لم يكن معروفاً في الدولة.

مسرحية للشعب

على أهمية هذا الفيلم- المنتج بأموال دول ثلاث هي لاتفيا، والتشيك وسويسرا- لم أكن من المتحمسين عندما منحته لجنة التحكيم الجائزة الكبرى بمسابقة الوثائقي، وشخصياَ لو كنت في لجنة التحكيم لمنحت الجائزة لأفلام أخرى أهم على المستوى الفني ولها مصداقية أكبر.

هنا، يبدو لي أن الجانب السياسي - والذي أتحفظ كذلك علي بعض جوانبه - تفوق على الشكل الفني في تغليب دفة الجائزة، فالفيلم من حيث البناء تقليدي جداً، والتعليق ثقيل غير مشبع بالمهارة والإضاءة الكافية التي تمنحنا طبقات من القراءة، ربما تكون اللقطات الأرشيفية التي يقرؤها كل شخص حسب هواه وتكوينه وميوله هي ما يلعب دوراً أهم، كما أنه من حيث المضمون الكلي لا أعتبره عملاً ينتمي إلى التحف السينمائية الوثائقية.

وفي تقديري أيضاً أن بمسابقة الوثائقي بكارلوفي فاري الثالث والخمسين كان هناك من الأفلام الاثني عشر التي تضمنتها المسابقة الوثائقية أفلام أخرى أكثر أهمية، على المستويين الفني والفكري، لكن في اعتقادي أن لجنة التحكيم انحازت للمضمون السياسي، خصوصاً أنه في بعض جوانبه يكشف زاوية مهمة لواحدة من أكثر الشخصيات السياسية جدلا في العالم في العصر الحديث، وهو بالطبع سيحقق صدًى واسعا، وسوف تتنافس عليه المهرجانات السينمائية خصوصا تلك التي يتم تنظيمها في بلدان تدين فلاديمير بوتين أو أخرى أصبح ساساتها على خلاف شديد معه.

على صعيد آخر، لا شك أن فيلم شهود بوتين أحد الوثائقيات المهمة التي أرشحها بقوة للمشاهدة والتأمل، لمعرفة زاوية جديدة من شخصية فلاديمير بوتين، وكيف حاولت تلك الحملة الترويجية الدعائية تجميل وجهه وإكسابه ملامح إنسانية تجعله يبدو كأنه جاء من بين الشعب، وكانت هذه الفكرة نابعة من بنات أفكار مخرج شهود بوتين نفسه إذ كان الرئيس الشاب القادم من جهاز المخابرات الروسية قليل الحديث في الصحف، ولا يكاد يعرف عنه أحد شيئاً، وبالبحث في ملفاته تم العثور على صورة لمدرسته في السنوات الأولى، والتي على ما يبدو- أو أريد حينها أن يبدو- أنها كان لها دور مهم لتشكيل شخصية الرئيس، لذلك- وبدهاء لن يعترف به المخرج - اقترح مانسكي على بوتين ترتيب زيارة إلى مدرسته والاستماع إليها في رسالة ضمنية يبعث بها إلى الشعب أنه منحاز له لأنه جاء من الشعب، لكن المتأمل لملامح الرئيس الجافة الصارمة الخالية من الإنسانية رغم محاولة الابتسام، المتأمل لتوتر المدرسة التي تكاد لا تصدق نفسها بأن الرئيس يزورها، ومن ينصت لكلمات زوجها عن الأعشاب الضارة التي يجب أن تم تهذيبها، يُدرك أن ما يدور تمثيلية، وأن الرئيس غير متجاوب مع الشعب، ولا يمكن أن ينحاز له، إنها حقيقة تدركها من ردة فعل بوتين عندما تحتضنه المدرسة.

شخصيات ثلاث

تحفظي علي الفيلم ليس فقط بسبب عدم تميزه سينمائياً، وعدم التميز ليس مرجعه أنه يعتمد فقط على لقطات أرشيفية، ولكن لأنه لم يبنِ تلك اللقطات الأرشيفية وفق مونتاج إبداعي، وكان التعليق غير مباشر وتقليديا أيضاً، ولا يتمتع بالخفة والحذق الفكري. أما السبب المتعلق بالمضمون فمرجعه ثلاث شخصيات: الأول يتعلق بالمخرج نفسه إذ لم يخبرنا لماذا تم استبعاده وأصبح علي خلاف مع بوتين، خصوصا أنه في بعض لقطات الفيلم نسمعه يلفت نظر بوتين إلي أن الكاميرا تُسجل وكأنه يُحذره من قول شيء قد يُحسب عليه لاحقاً، هنا يطرح التساؤل نفسه؛ كيف انقضي شهر العسل بينهما. صحيح أن نحو سبعة آخرين من الداعمين لسياسات بوتين في بداية ترشحه للرئاسة انشقوا من حوله أيضاً بعد فترة قصيرة، فبعضهم تم نفيه، والبعض الآخر قُتل في ظروف غامضة، ولم يوضح لنا مانسكي أسباب الخلاف والاعتراض من قبل هؤلاء، لكن الأهم أن المخرج فيتالي مانسكي الذي اختار النفي الطوعي، والذي اعتبر نفسه أحد شهود الإدانة ضد بوتين لم يخبرنا كيف ولماذا وقع الخلاف؟

سؤالي أو تحفظي السابق يدعمه إظهار المخرج لشخصية يلتسين وكأنه ضحية، وشخصية مأساوية إذ إنه بعد أن رفع بوتين للرئاسة تخلى عنه الأخير بشكل مهين، ورفض الرد على اتصاله الهاتفي عقب الفوز بالانتخابات.

لماذا اختار مانسكي أن تقتصر صورة يلتسين على ارتداء الزي الإنساني؟ ولماذا أصر علي وضع لقطات لفريق العمل التليفزيوني معه وهم يعبرون عن تعاطفهم مع الرئيس المعتزل، ويصفونه ويمتدحونه بصفات تكسبه تعاطف الجمهور؟

لماذا اقتصرت صورة مانسكي لبوريس يلتسين على كونه ضحية ولم يقدمه كرئيس ارتكب جرائم في حق شعبه، وإن كنت شخصياً أعجبني تصرف بوتين بعدم الرد، فهو تصرف كان يحمل رسالة مفادها أنه سيكون سيد قراره، ولن يحكمه الماضي، حتى لو كان هذا الماضي هو من رفعه إلى سدة الحكم.

أما الشخصية الثالث بالفيلم، فالمخرج السينمائي نيكيتا ميخالكوف- الذي يظهر بلقطات قليلة بالفيلم- فعندما قرر بوتين تغيير النشيد الوطني الروسي وقع الاختيار عليه لتحقيق عمل بديل مع والده الشاعر المعروف بولائه للسلطة. أعلم جيداً أن نيكيتا سينمائي براجماتي جداً، يستفيد من علاقاته بالسلطة التي يٍقيم معها جسورا وعلاقات طيبة، لكن في نفس الوقت كما سبق أن كتبت في مقدمتي؛ الفيصل بالنسبة لي هو الفن الذي يقدمه هذا المخرج، فهو من دون شك أحد أهم المخرجين السينمائيين في العالم، ونال جائزة لجنة التحكيم من كان، وحصد أسد فينسيا، وأوسكار أفضل فيلم أجنبي من أمريكا العدو اللدود لسياسات بلاده، ولا يمكن لمخرج مهادن لسلطة بلاده التي يختلف معها كثير من بلدان العالم أن ينال كل تلك الجوائز لولا أن ما يقدمه فن حقيقي. لذلك لم أشعر بالراحة من الطريقة التي تم بها تقديم نيكيتا ميخالكوف بالفيلم، وكأنها محاولة لتشويه صورته وسمعته وإدانته، من دون قول الحقيقة كاملة.

من زاوية أخرى، أنا ضد إدانة نيكيتا، لأن والده كان مؤلف النشيد السوفيتي السابق، علينا إدراك الغيرة القائمة في الوسط السينمائي، علينا أيضاً عدم خلط الأوراق، والتخلص من الجملة التراثية: الآباء يمضغون الحصرم، والأبناء يضرسون.

المفروض أن كل إنسان يُحاسب عن أعماله، فلا يتحمل الأبناء جريرة ما صنعه الآباء، هذا على فرض اعتبار كتابة النشيد الوطني لبلد ما جريرة يُحاسب عليها الإنسان.

يُضاف إلى ملاحظاتي من حول الشخصيات الثلاثة سبب آخر جوهري في تحفظي على فيلم شهود بوتين ومضمونه إذ إن مخرجه لم يستعن بآراء مؤرخين وسياسيين ومحللين يدلون بشهادتهم، ويثبتون- أو ربما يختلفون بشكل تأملي- ما يقدمه مانسكي في طيات فيلمه. لكل ما سبق أعتبر الفيلم شهادة أحادية ومنقوصة.

إعلان