إعلان

بطل في الظل.. "بُريِّك" يحصد "مرتين" بطولة العالم في رفع الأثقال للمكفوفين

08:29 م الأربعاء 17 نوفمبر 2021

محمد بٌريِّك يرفع علم مصر في بطولة العالم لرفع الأ

كتبت-إشراق أحمد:

لا ينسى محمد بُريِّك يوم أن تغير مسار حياته؛ 16 أغسطس 2019، انقضى نحو شهر ومازال طالب المرحلة الثانوية حزينًا. ضاع حلمه في الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رنين لقب "سفير" الذي اعتاد الجميع مناداته به، التمني بأن يكون أول كفيف يقتحم هذا المضمار. سقط كل شيء بخبر حصوله على مجموع 76%. ابتأس بُريّكِ كما لم يفعل قبلاً، قبل أن يستقبل اتصالاً بدل حاله: "مبروك انضميت لمنتخب رفع الأثقال للمكفوفين". حينها علم ابن محافظة بني سويف أن القدر يدبر له شيئًا آخر، فحدث نفسه موقنًا "هبقى سفير مصر في الرياضة".

نهاية أكتوبر المنصرف، وقف برُيِّك على منصة التتويج، حصد ذهبية المركز الأول للمرة الثانية في بطولة العالم للمكفوفين التي أقيمت في جورجيا خلال الفترة من 22 إلى 30 أكتوبر، فيما انتزع ميداليتين فضيتين، ليعود إلى مصر بـ4 ميداليات ولقب "بطل العالم" ويحقق إنجازًا جديدًا كما يقول لمصراوي "دي تاني مرة أخد أول عالم بس المرة دي خارج مصر".

1

عمر بُريِّك في رفع الأثقال ليس كبيرًا، بدأ قبل ثلاثة أعوام فقط، وقت أن كان القائمون على المنتخب المصري للمكفوفين يبحثون عن مواهب يعدونها للبطولات "كانوا بيلفوا على المدارس ومدرس الرياضة في مدرستي رشحني".

التفت محمد سيد معلم التربية الرياضية في مدرسة النور والأمل ببني سويف إلى قدرات طالب الصف الأول الثانوي، الذي كثيرًا ما يتواجد في صالة الألعاب "كنت بحب الرياضة بشكل عام وبحكم شغلي مع والدي في الأرض كان جسمي قوي"، نصح المعلم بُريِّك ألا يتوقف عن التدريب وظل يشجعه من وقتها حتى جاءت الفرصة.

لم يكن بُريِّك يعلم شيئًا عن رياضة رفع الأثقال للمكفوفين، حين التقاه المدير الفني للمنتخب وحدثه للانضمام إلى الفريق والمشاركة في بطولات محلية، ارتبك الطالب الذي كان بالصف الثالث الثانوي؛ تعني الموافقة الانتقال إلى القاهرة والإقامة بالمركز الأوليمبي في منطقة المعادي، فضلا عن تزامن ذلك مع اقتراب موعد الامتحانات، لكن معلم بُريِّك شد من أزره "قالي ما تقلقش هتبقى حاجة حلوة. أنت عايز تبقى أفضل والرياضة هتخلي ليك شأن كبير".

تشجع بُريِّك رغم القلق "أهلي كانوا خايفين في البداية هرفع إزاي أثقال"، غير أن الشاب عرف أن الرياضة لها نظام مختلف "للمكفوفين مافيهاش نطر ومابنبقاش واقفين زي العادية وبيبقى في تأمين للاعبين"، طمأن ابن عزبة بُريِك أسرته التي واصلت دعمه.

توالى كل شيء سريعًا، خلال ثلاثة أشهر، كان على بُريِّك أن يعرف كافة التفاصيل عن الرياضة ويعتاد روتين يومي "أول شهر كنت مستغرب. كل حاجة جديدة عليا. وقبلها كان أخري من البيت والأرض للمدرسة وأشوف مدرس يشرح من كتاب"، فيما بات عليه أن يتجاوز وحده إحساس الغربة، ويتعامل مع مدربين وزملاء لا ينتمون جميعًا لمكانه، بل ويستمع للقب بطل.

مازال يتذكر بُريّك انبهاره، يوم التقى أبطال العالم في رفع الأثقال لذوي الإعاقة، البارلمبيين شريف عثمان ومحمد إيهاب، لم يعرف الشاب أي منهما مسبقًا مثل العالم الجديد الذي دخله، لكن بتعرفه عليهما، هاله فكرة أنه يجلس في حضرة "بطل عالم" وحاصدين العديد من البطولات، انصبت كل أسئلة بُريك وقتها عن كيف يحدث هذا، ليستقبل رد لازمه إلى الآن "عادي.. مسيرك تبقى بطل عالم".

مع أول بطولة يشارك فيها بُريك عام 2019، حقق الشاب انجازًا، حصد المركز الثالث على مستوى الجمهورية. شعر ابن بني سويف أنه يحب الطريق الذي لم يختره، يتحمس لتحقيق المزيد، لا يلتفت للصعوبات "كنت بذاكر للثانوية العامة وبتدرب وبدخل بطولات"، واصل المشاركة في البطولات المحلية التي تؤهله لبطولة إفريقيا، وحينها تجاوز ما حققه في 23 نوفمبر 2019 كل التوقعات "جبت أول ناشئين وأول وزن كبار. كانت زي ما تكون بطولتين في بعض"، فيما صار رسميًا ضمن المشاركين في بطولة العالم.

2

من طالب يُصنف بالضعف الشديد للبصر، يعاون أبيه في الفلاحة، ويساعده أشقائه الأكبر عمرًا، إلى رياضي بينه وبين العالمية خطوة واحدة في لعبة بدأت مصر تشارك بها منذ عام 2018، فيما عرفها العالم قبل نحو 15 عامًا كما يقول بُريك.

اختتم بُريِّك عامه الأول مع رفع الأثقال بإحراز ذهبية العالم في البطولة التي استضافتها مصر، نهاية عام 2019، وعلم معنى كلمة مّن سبقه في خوض التجربة "عرفت أن بطل عالم مش حاجة صعبة لكن المهم الاستمرار".

كأن أبواب الدنيا فُتحت للفتى صاحب التسعة عشرة عامًا فبدلت حاله "محمد القديم مبقاش موجود حتى في طريقة كلامي بقى عندي مشكلة لما اتكلم بلهجة بلدنا"، تعلم بُريِّك أكثر مما تخيل خلال أشهر معدودات، فيما أصبح مصدر سعادة لأسرته وأهل قريته، لكن الفرحة لم تلازم الطريق.

حل فيروس كورونا (كوفيد19)، توقفت جميع الأنشطة الرياضية، لم يجد لاعب رفع الأثقال منفذًا لمواصلة المشوار، لكن ابن محافظة بني سويف لا يغلب؛ تجاوز بُريِّك العقبة كما فعل وقتما تعالت أصوات محبطة "هم اللي بيشوفوا بيجيبوا بطولات لما الكفيف هيجيبها"، أقام الشاب مكانًا للتدريب فوق سطح منزله البسيط طيلة فترة الإغلاق، وكان وسيلته للاستعداد والحصول على بطولة العالم للمرة الثانية.

لأشهر لا يغادر بُريك المنزل، يتخذ من السطح "صالة تدريب"، ساعده والده وأشقائه الأكبر في عمل ما يشبه ساحة رفع الأثقال "جبت زلط وأسمنت وعملت صبة وحديد وبقيت بتمرن بإمكانيات بسيطة"، مرت أوقات عصيبة صارح الشاب من حوله برغبته في التوقف، لولا كلمة من صديق سبقه في رفع الأثقال أعادته "هي الحياة كده دوام الحال محال. ظروف وهتعدي للأفضل"، حكى له عن صعاب مرت على اللاعبين، وأنه مازال ببداية الطريق.

3

استرد بُريك الأمل ورغبته في التحدي، رغم اعتماده على المجهود الذاتي بشكل كامل، ومع فتح باب البطولات مطلع العام الجاري، اشترك دون تردد، وفي أول بطولة محلية بالفيوم حصد المركز الأول، إلى أن تحدد موعد التجارب التي ينضم بعدها المشاركون في منتخب مصر لأجل بطولة العالم.

كان ذلك مطلع إبريل المنصرف، حين انتصر بُريِّك في المكان ذاته الذي سبق وحقق فيه مركز ثالث، انتزع الشاب الذهبية هذه المرة في بورسعيد. يضحك بُريِّك بينما يتذكر كيف هرول عقب المباراة وإعلان النتائج دون انتظار التتويج "كنت عايز اروح قبل الحظر اللي كان وقتها بسبب كورونا"، بالكاد كانت المصاريف تكفي السفر، وليس هناك مكان للإقامة فيه.

عادت الحياة مرة أخرى لبُريّك بعد رسالة وصلته في السابعة مساء الأول من مايو 2021 "انضمام لمجموعة منتخب مصر-جورجيا 2021". علم طالب الفرقة الثالثة بكلية الأداب أنه من المختارين للاستعداد لبطولة العالم، واكتملت سعادته بالرجوع ثانية إلى المركز الأوليمبي والتدريب منذ شهر يونيو وحتى موعد البطولة في أكتوبر "وقتها عرفت أن كلام صاحبي صح وأن فعلاً دوام الحال من المحال".

في جورجيا، تحققت أمنية بُريك "بقيت سفير مصر جوه وبره"، يبتسم بينما يصف كيف كان شعوره وقت استقلاله الطائرة للمرة الأولى "كان أخري اسمع عنها في التليفزيون بس طلعت شبه الميكروباص كلها كراسي". سافر الشاب محملاً بمشاعر مختلفة عن أي بطولة انقضت "قبل كده ماكنش حد يعرف بعمل ايه.. دلوقت كل أصدقائي والأسرة والجامعة حاطة الثقة فيا وبيقولوا لي ارفع راسنا"، حمل الشاب ضغطًا، لذا كانت فرحته هذه المرة أكبر.

لحظة مهيبة لـبُريِّك، يُعزف النشيد الوطني خارج البلاد بينما يحمل الشاب علم مصر، انتصر ابن محافظة بني سويف مرة أخرى وسط أجواء جديدة كليًا "مكناش عارفين بنلعب فين وحوالين ناس مش فاهمينهم". ظن الشاب مع تحقيق بعثة المنتخب –المكون من 9 لاعبين ولاعبة- لنحو 15 ميدالية أن الاستقبال سيكون حافلاً في المطار، تاق لإحساس هذه اللحظة، لكنه لم ينلها.

4

"كنا زينا زي أي حد راجع على الطيارة" خلا المطار إلا من الأسر، شعر بُريِّك بالأسى، إلا أن مكالمة بالطريق خففت عنه ما به "عميد الكلية قالي عايزينك تيجي الجامعة وتشرفني في مكتبي"، يبتسم بطل العالم بينما يقول إنه توجه من المطار إلى الكلية، ليتلقى تكريمًا واهتمامًا مرضيًا من مسؤول كليته ورئيس جامعة بني سويف، ثم ذهب لمنزله ليجد استقبالاً حافلاً من أهل قريته.

انفض الجمع مبكرًا، عاد بُريّك وحده مرة أخرى "أنا من غير مدرب ولا راعي يتحمل مصاريف التدريب والعلاج لو لا قدر الله اتصبت"، يعج منزل لاعب رفع الأثقال بالعديد من الميداليات، يغبطه أهل قريته على ما فيها من ذهب، فيما لا يصدقونه بأنها مجرد ميداليات وحصد ألقاب يمتن لوجودها، فعائدها معنوي وليس مادي "حتى بطولة العالم عشان يبقى في مكافأة مع الميدالية لازم تكون الدول المشاركة 5 لكن اللي شاركوا السنة دي 3".

5

رغم ما حققه بُريِّك في فترة قصيرة، وسط رياضة حديثة العهد للمكفوفين بمصر، لكن ينتابه الإحباط أحيانًا"بحس أن مفيش نتيجة من اللي بعمله"، ويزيد حزنًا لعلمه أنه لن يرقى لمرتبة لاعبي البارلمبياد المصريين، لعدم إدراج رفع الأثقال لكف البصر للألعاب البارلمبية، يتمنى لو التفت لهم مّن يدعمه ورفاقه في المنتخب، فيما تمسه لحظات أمل مع النظر للميداليات، يستعيد كيف بدأ المشوار الذي قُدر له السير فيه، فيحدث نفسه "ربنا خلاني سفير أفضل من اللي كنت عاوزه. واثق أنه هيخلي اللي جاي أحسن".

فيديو قد يعجبك: