إعلان

قبور حكام الواحات تكشف: ميدو وإيما أسماء مصرية عاشت من 4500 سنة

كتب : مصراوي

01:43 م 07/09/2025

تابعنا على

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

أعاد ملف أثري فريد في قلب واحة بلاط إحياء سؤالٍ طريف وجاد في آن: هل تخيّلت يومًا أن اسمي "ميدو" و"إيما" اللذين نسمعهما اليوم بين أطفالنا وشبابنا، يعودان في جذورهما إلى عصور الدولة المصرية القديمة؟ خلال تتبّع "مصراوي" لحكاية مقابر حكّام الواحات في موقع قلاع الضبة بمدينة بلاط القديمة بمحافظة الوادي الجديد.

اتّضح أنّ سجلات عصر الأسرة السادسة قبل نحو 4500 عام تحفظ ذكر حكّام حملوا ألقابًا وأسماءً من بينها إيما بيبي وميدو نفر، عاشوا وشيّدوا مصاطبهم هنا، وتركوا وراءهم لَوح "ديشرو" وكنوزًا جنائزية نادرة، وصورًا من حياة المصري القديم في الزراعة وتربية الحيوان والملاحة عبر الصحراء.

قال الأثري طارق القلعي، مدير متحف آثار الوادي الجديد لمصراوي، إن القبور التي جرى الكشف عنها في قلاع الضبة توثّق نفوذ حكّام الواحات في عهدي بيبي الأول وبيبي الثاني، وتؤكّد أنّ المنطقة كانت مركز ثِقلٍ إداري وتجاري وروحي في قلب الصحراء الغربية.

جذور الحكاية: من "ديشرو" إلى إيما وميدو (الأقدم فالأحدث)

تبدأ القصة من قلب الدولة القديمة؛ فقبل عصر بيبي الأول بقليل، يبرز اسم الحاكم ديشرو على لوحةٍ من الحجر الرملي تَسرد أول سيرةٍ معروفة لحاكم الواحات. ومع تولّي بيبي الأول ثم بيبي الثاني العرش، اتّسع نفوذ كهنة "رع" و"بتاح"، وازدهرت حركة العمران في الواحات، لتظهر أسماء حكّامٍ صاروا لاحقًا أيقوناتٍ محليّة: إيما بيبي، إيما بيبي الثاني، خنتيكا، خنتيكاو بيبي، وميدو نفر.

هذا ما أكده القلعي، مضيفا أنّ "المدهش ليس الأسماء وحدها، بل الألقاب الإدارية والعسكرية التي حملها هؤلاء، وفي مقدّمتها اللقب المصري القديم: ويا عبرو أمي أرتي حقا واحات، أي قائد السفينة والبحّار – القبطان، حاكم الواحات، وهو ما يشي بدور الملاحة والطرق المائية في إدارة الاقتصاد المحلي آنذاك".

قلاع الضبة: مصاطب خمسة تُطلّ على الزمن

قلاع الضبة ليست "قلعة" بالمعنى الحربي الصارم، بل مجموعة متجاورة من المصاطب الطينية شُيّدت فوق المدافن الأصلية، واتخذت من تراصّها وتخطيطها مظهر "القلعة"، أمّا الاسم الشعبي الضبة فجاء من هيئة المكان التي تشبه مفتاح الباب القديم.

تضم المنطقة خمس مصاطب رئيسية تعود للأسرة السادسة؛ الأكبر يرتفع أكثر من 10 أمتار، فيما جرى ترميم واحدة منها وفتحها للزيارة، بينما تعرّضت أربع مصاطب لأضرار عبر العصور بفعل الزمن والسرقات والعوامل الطبيعية.

الأثري محمد إبراهيم، مدير آثار الوادي الجديد، أوضح لـ"مصراوي" أنّ "واجهات المصاطب جاءت محاكية لطرز معروفة في الدولة القديمة، وجدارن المدافن امتلأت بمناظر الحياة اليومية: حرث وزراعة وحصاد وتربية الماشية، إضافة إلى مشاهد تقديم القرابين.

كنوز مدفونة: من المرمر والديروريت… إلى بيضة نعام مرسومٍ عليها صقر

حين ننتقل من الاسم إلى الأثر، تظهر ثروة جنائزية لافتة، ويعرض قبر ميدو نفر – الذي خدم في عهد بيبي الثاني – طيفًا عريضًا من اللُّقى: أوانٍ من الكالسيت (المرمر)، سيراميك، قطع نادرة من الديروريت والجريواك، مساند للرأس، مرايا نحاسية، حُليّ بسلاسل ولآلئ، ملاعق عظمية، وأختام.

وفي مصطبة خينتيكاو بيبي عُثر على أكثر من 100 وعاءٍ فخاري في هيئة شظايا أسفل أنقاض السقف، بينها أطباقٌ كاملة. أمّا اللقطة الأكثر غرابة فكانت إناءً خاصًا مصنوعًا من بيضة نعام وعليه صورة صقر، دلالةً على الطقس الجنائزي ورمزية الحماية والعلو.

ويوضح إبراهيم، أنّ التفاوت الطبقي بدا واضحًا؛ الأثرياء استُخدمت لهم توابيت خشبية وأثاث جنائزي متقن، بينما جرى دفنُ العامة في حُفر بسيطة يُلفّ فيها الجثمان بطبقات من الحصير أو الأكياس.

نوعان من العمارة الجنائزية: غرفٌ للأسرة أم حجرةٌ واحدة؟

قال مدير آثار الوادي الجديد، محمد إبراهيم، إنه قد رصدت بعثات الدراسة اختلافات بنيوية بين مصاطب الحكّام:

•النوع الأول: بنية تحتية واسعة تحوي غرف دفن متعددة لأفراد الأسرة، مع هيكل علوي شاسع فوق حفريات مفتوحة. من أمثلته: مصطبتا إيما بيبي (عهد بيبي الأول) وخنتيكا (عهد بيبي الثاني).

•النوع الثاني: تصميم أكثر حصرًا يضم حجرة دفن واحدة وغرفة انتظار ومخازن من الحجر والطوب، وهو الطراز المفضّل لـإيما بيبي الثاني وميدو نفر؛ هياكل أصغر حجمًا وأكثر تركيزًا وظيفيًا.

وإلى جانب مدافن الدولة القديمة، تضم المنطقة قبورًا من الفترة الانتقالية الأولى (بيضاوية بسيطة بدرج نازل)، وأخرى محفورة في الصخر بقبابٍ طوبية، إضافة إلى مقابر رومانية تُجاور الموقع وتشهد على استمرار الدفن في الواحات قرونًا لاحقة.

1970 عام إعادة الاكتشاف العلمي

قال بهجت أحمد إبراهيم، الخبير الأثري بالوادي الجديد، إنه على الرغم من قِدم المدافن، فإنّ إعادة إدخال قلاع الضبة إلى خرائط البحث الأثري جرى عام 1970 بجهدٍ مشترك قاده عالم الآثار المصري أحمد فخري بالتعاون مع المعهد الفرنسي للآثار الشرقية. ومنذ ذلك التاريخ، توالت أعمال الرفع والتوثيق والترميم، وجرى عرض لوحة ديشرو في معرضٍ خاص مع ترجمة نقوشها التي تؤكّد أهمية الواحات اقتصاديًا وإداريًا خلال الدولة القديمة.

وأضاف أن لوحة ديشرو وثيقة تأسيسية لفهم سِير حكّام الواحات الأوائل، وإعادة عرضها وترجمتها للجمهور أتاحا قراءةً جديدة لدور الداخلة في بنية الدولة المركزية.

بيتجو… غرفة دفن بسماءٍ مطلية بالنجوم

ولفت إلى أنه ضمن أحدث جهود الترميم في الموقع، جرى تأهيل حجرة دفن لحاكمٍ يُدعى بيتجو، تزيّنها مشاهد مرسومة حية لحياته وأسرته، وجزء من سقفٍ مطلي بالنجوم؛ لمسة سماوية تُحاكي تصوّرات المصري القديم حول العبور والخلود.

بلاط… مدينة تعلو ربوة التاريخ من الدولة القديمة إلى العثمانيين

لا تنفصل قلاع الضبة عن المشهد العمراني والثقافي لمدينة بلاط ومحيطها. فالقرية – التي تبعد قرابة كيلومتر عن المقابر الفرعونية – تَعلو ربوةً عالية تَحمي بيوتها من مياه جوفية محتملة وتمنح السكان رؤيةً مبكرة لأي خطر. في الأزقّة الضيقة المسقوفة بجذوع النخيل والدوم، تتبدّى روح العمارة الإسلامية بواجهاتٍ تحمل نقوشًا خشبية بأسماء العائلات وتواريخ البناء وآياتٍ قرآنية.

ويقول صابر صقر، رئيس مركز بلاط الأسبق، لمصراوي: بلاط مدينةٌ تعدّدتُ عصورُها؛ نقوشُ الدولة القديمة لا تزال على جدران المدافن، بينما شواهد العصر الروماني تتصدرها مقبرة كِتيانوس المنحوتة في الحجر الرملي بمشاهد الموت والتحنيط والبعث، وأمّا العهد العثماني فترك بصمته في تخطيط المدينة وأسقفها وتفاصيل أبوابها، إلى جانب ضريح الشيخ البشندي الذي جرى بناؤه من أحجار معبدٍ فرعوني قديم واستُخدم لاحقًا مسجدًا وكُتّابًا لتعليم القرآن واللغة العربية والحساب

الهندسة والبناء: درجاتٌ طوبية وكسوة جيرية

وأكد صقر، أنه تؤكّد سجلات التوثيق أنّ المصاطب شُيّدت بدرجاتٍ من الطوب اللبن، ثم كُسيت بألواحٍ من الحجر الجيري، مع تغطية نهائية بطبقةٍ من الحجر الجيري الناعم،ارتفاع أكبرها يناهز 10 أمتار، وهو رقمٌ لافت في بيئةٍ صحراوية مفتوحة. أحيانًا يحيط بالمصاطب سورٌ كبير من الآجر، وتُقسّم واجهاتها إلى أقسامٍ تؤدي إلى أضرحة وغرف دفن وأقبيةٍ طوبية، بينما تُظهر بعض اللوحات الجنائزية عند المداخل هوية أصحاب المقابر وألقابهم.

أصوات من المتحف: "جبّانة مدينة" وثروة نقوش يومية

يقول الأثري طارق القلعي، مدير متحف آثار الوادي الجديد، في تصريحٍ خاص لـ"مصراوي": "منطقة الضبة جبّانة المدينة في الدولة القديمة؛ هنا مجموعةٌ من مصاطب حكّام الواحات (خنت كا، خنتيكاو بيبي، إيما بيبي، ميدو نفر، ديشرو). اللُّقى تَضم أثاثًا جنائزيًا وأدوات حياةٍ يومية ولوحاتٍ جنائزية، وجدران المقابر تحفل بمناظر الزراعة واستئناس الحيوان وتقديم القرابين؛ مادة بصرية وتعليمية فريدة لفهم الحياة في الواحات قبل آلاف السنين".

ويتابع: "إلى الجنوب والشرق من المصاطب، تظهر مدافنُ عامة الشعب؛ حُفرٌ بسيطة ودفنٌ داخل لفائف من الحصير، ما يقدّم مقارنةً اجتماعية بين نُظم دفن النخبة وطبقات المجتمع الأخرى".

لماذا "ميدو" و"إيما"؟ الاسم سافر في الزمن

ربّما لا توجد صلة مباشرة بين الأسماء الحديثة وحامليها القدماء، لكنّ بقاء الأسماء في السجلات يُظهر استمراريةً لغوية وثقافية في وادي النيل.

محسن عبد المنعم مدير الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، صرّح لـ"مصراوي": "الأسماء تتبدّل أصواتُها ومعانيها عبر القرون، غير أنّ ظهور صِيغ قريبة من إيما وميدو على نقوش الدولة القديمة يمنح القارئ إحساسًا بعمق الجذور، ويضيف طبقةً وجدانيةً إلى زيارة قلاع الضبة؛ فهنا عاش إيما وميدو الأولان، وهنا تتردّد الأصداء".

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان