إعلان

نبلاء وأوباش

د. أحمد عبد العال عمر

نبلاء وأوباش

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 05 مارس 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"إلى الأجيال الجديدة: تذكروا أن الإنسان تاريخ وموقف، فلا سرَّ يخفى، ولا شهادةَ تموت".

بهذا الإهداء افتتح الراحل الأستاذ سليمان فياض كتابه "نبلاء وأوباش" الذي خصصه للحديث عن المثقفين والكُتاب، "النبلاء منهم والأوباش، الشرفاء منهم والسفلة، من آثروا العلو والارتفاع ومن آثروا الانخفاض والتسفل، من ترفعوا عن الصغائر، ويعيشون ويموتون بين المساكين، ومن يعيشون مثل سفلة الشجر والنبات، مثل النمنم الأبيض على الُظفر، ورقط الجرب يتفشى في جسد البعير".

ورغم أن الراحل سليمان فياض لم يُحدد أسماء من تحدث عنهم، فإن القارئ المُطلع على الوسط الثقافي في مصر والعالم العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قد استنتج بسهولة مَن هم النبلاء ومَن هم الأوباش.

كما عرف من خلال الكتاب أهم نموذجين سائدين لأوباش الكتاب والمثقفين، وهما نموذج المثقف الفهلوي الذي يلعب بالبيضة والحجر من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والشخصية.

ونموذج المثقف المسخ الذي يتمادى في الانحطاط وبيع الذات والدور والمعرفة من أجل تحقيق أكبر قدر من الثراء والسلطة، ولهذا يسلك سلوك الغواني، ويخلع باستمرار قناعاته الفكرية والسياسية حسب كل مرحلة لصالح من يدفع أكثر.

وانطلاقًا مما كتبه بجرأة وشجاعة الراحل سليمان فياض، يمكن أن نمارس النقد الذاتي، وأن نرصد هنا بوجه عام أهم أمراض المثقفين التي تؤثر بشكل سلبي على صورتهم وحضورهم ودورهم في مجتمعهم.

ومن أهم وأبرز هذه الأمراض من وجهة نظري ما يلي:

النرجسية المفرطة:

يظهر هذا المرض عندما ينطوي المثقف على نفسه، ليستشعر متعته وقوته في تأمله لذاته ومعارفه وثقافته، وعندما يعجز عن الانفتاح على الآخرين، وعلى مصادر المعرفة والثقافة الجديدة.

ولهذا يكتفي بذاته ومعارفه، وإذا خرج للناس وتواصل معهم نجده يتحدث فقط ذاته ومواهبه وإمكاناته وأمجاده المُتوهمة.

أوهام النخبوية:

يظهر هذا المرض عندما يُخطئ المثقف في تقدير ذاته وأهميتها، فيتصور نفسه عقلية إبداعية وفكرية لا مثيل لها. وأنه لم يأخذ حقه من الرعاية الرسمية والاهتمام من الناس والمحيطين به، ولم يعطَ الفرصة لإبراز مواهبه وإمكاناته.

ويعيش وهو على يقين غير قابل للشك، أنه موهبة مُهدرة كان يمكن أن تقود السلطة والمجتمع إلى آفاق جديدة من العمل والتقدم لو أخذ فرصته في الإدارة والقيادة.

الرومانسية الثورية:

يمكن أن نُطلق على هذا المرض أيضًا اسم "حالة الطفولة اليسارية". ومن أعراضه الواضحة الانفصال عن الواقع، والسعي لتحقيق تغيير ثوري يقلب الأوضاع رأسا على عقب، دون الانتباه لخصوصية اللحظة التاريخية، وطبيعة ومتغيرات العصر، ومقتضيات الواقع وموازين القوى فيه.

الازدواجية بين القول والفعل:

هو أكثر أمراض المثقفين شيوعًا، لأن أغلب المثقفين في بلادنا لديهم ازدواجية بغيضة بين ما يكتبونه أو يُدرسونه وبين ما يحيونه ويمارسونه في الواقع؛ فهم يقولون ما لا يفعلون، ويُدرسون لطلابهم ما هم أبعد الناس عنه، ويدعون الناس إلى ما لا يؤمنون به، ويريدون أن يجعلوا من المعرفة والثقافة أداة لتغيير كل الناس إلا أنفسهم.

فقدان الحس النقدي:

هو مرض معرفي في غاية الخطورة، يناقض جوهر وجود ودور المثقف؛ لأن المثقف بالأساس ناقد باستمرار لذاته وللفكر والسلطة والمجتمع، لأنه يؤمن بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة.

ولهذا عندما تستلب المفكر أفكاره الخاصة أو أفكار الأيدلوجيا أو المؤسسة التي ينتمي إليها ويفقد حسه النقدي، يتحول من مثقف ناقد إلى إنسان عقائدي رجعي سلفي متصلب الفكر.

تلك إجمالا من وجهة نظري أبرز أمراض المثقفين شيوعًا، وهي التي تؤثر في مصداقيتهم وتفقدهم احترام المجتمع والسلطة، وهي التي تقلل من فاعليتهم وتجعل أغلبهم أوباشًا، وتجعلهم بلا منفعة لمجتمعهم وأوطانهم؛ فلنتأمل ونتدبر ونتعلم.

إعلان