إعلان

"حنين غزة" من مصر: المقاومة بـ"المقلوبة" الفلسطينية

كتب : مصراوي

06:48 م 12/08/2025

مطبخ حنين غزة - القاهرة

تابعنا على

-مارينا ميلاد:

القاهرة- تفرش "حنين" أطباقا لمكونات طعام غير جاهزة فوق طاولات مرصوصة بحديقة بيتها. وبيدها الأخرى، كانت ترفع الهاتف لتتحدث مع "وجدان"، شقيقة زوجها، تسألها: "ايش كلتوا اليوم؟ ايش شربتوا؟"، فترد الثانية "بأنهم أخيرًا استطاعوا أن يحصلوا على علب جبنة وشاي بعد خمس أشهر دونهما"، فقد نفذت بعض المساعدات القليلة إلى قطاع غزة.

تحول "حنين" كاميرا هاتفها إلى الناحية الخلفية، فتدرك "وجدان" تلك المكونات الموزعة على الطاولات: "آآه مقلوبة !.. والله اشتقنا!"، وتقصد "المقلوبة"، الأكلة الفلسطينية ذائعة الصيت.

تبتسم "حنين" ثم تضطر لإنهاء المكالمة بعد أن دخل عليها زوارها، الذين جاءوا لتعلم طريقة "المقلوبة"، حيث تطبخها مع أصناف أخرى لترسلها إلى البيوت بـ"الطلب". كما تقيم ورش مثل هذه لتعلمها، وهو مصدر رزقها منذ جاءت إلى مصر أوائل العام الماضي.

التف نحو 15 شخصًا حول الطاولة، واستداروا ناحية "حنين" التي بدأت تحدثهم عن المقلوبة قبل أن تطهو، فبدا الأمر من كلماتها وتعبيراتها أنه أكبر بكثير من مجرد طريق لكسب المال: "ايش القصة؟، شو هو أكلنا؟، وليش بنحب هاي الأكلات؟".

قبل أسبوعين، فركت "حنين" أصابعها قبل أن تضغط زر "النشر" للإعلان عن ورشتها الجديدة لتعلم "المقلوبة" على حساب مشروعها بـ"إنستجرام": "مطبخ غزة حنين". كانت مترددة أن تفعلها. ثم قطع تفكيرها وما هو ظاهر على شاشتها، مكالمات متواصلة من عائلتها بمدينة غزة. فهي غادرت مع زوجها وابنيها ووالديها. وظل هناك، أعمامها وخالها ووالدي وأشقاء زوجها، ومنهم وجدان نصار، وهي حامل بشهرها السادس. أجابت "حنين"، فأخبرتها الأخرى، وأصوات القصف تتسلل إلى المكالمة بينهما، "أن آخر علبة حمص معلبة نفدت، وأن ابنتها الصغيرة تريد حلوى.. لكن لا يوجد شيء، ومن يذهب لطوابير المساعدات لا يعود بشيء أو لا يعود هو نفسه!".

غالبت "حنين" دموعها، وهي تحدثها، وهو ما يتكرر دائمًا. لكنها انهمرت بعد أن أنهت مكالمتها. في هذا الوقت. تواجه غزة "أخطر مراحلها، المجاعة، وواحد من كل ثلاثة أشخاص فيها يمضون أياما بدون طعام"، كما تذكر الأمم المتحدة واليونيسف. إذ تفرض إسرائيل حصارها منذ أشهر وتعرقل عملية دخول المساعدات بكمياتها اللازمة.

فلم تقدر "حنين" على مواصلة ما كانت تفعله بالإعلان عن ورشتها. ألغت الأمر على الفور. وقالت: "كيف لنا أن نطهو وننشر صورًا وأهلنا جوعى!؟". خجلت أن تملأ أوانيها، بينما تتكدس الأوعية البلاستيكية والأطباق الفارغة، خلف سياج حديدي، أمام المطبخ المجتمعي الوحيد القريب من مكان "وجدان". ولساعات، يقف أمامه المئات بانتظار كمية قليلة من حساء العدس، ولا يتمكن الكثيرون من الحصول على رشفة منه.

لكنها استمرت فقط بعملها على إعداد طلبات الطعام التي تصلها "أون لاين" بمساعدة أمها، ليأخذها بعد ذلك زوجها "أدهم" إلى بيوت طالبيها. فبات ذلك عمله الوحيد هنا بعد أن كان يعمل بشكل حر في غزة. في حين أن "حنين" لم تكن تعمل من الأساس ولم تطمح أن يكون هذا مشروعها.

كانت "حنين" تعد لزبائنها "المقلوبة" و"المِسخن" وورق العنب.. يتصاعد البخار منهم، فتشم مع رائحتهم "رائحة بيت عائلتها بمخيم جباليا، دار فرحات، والدها"، الذي دُمر بالكامل، كذلك بيتها. وترى في صحونهم "صورة غزة، تجمع عائلتها كل يوم جمعة حولهم، وذكرياتها مع والدتها حين علمتها الطهي لأول مرة".

فتتذكر، وهي تغلف أطباقها: "كل شيء كنا نصنعه بأنفسنا في البيت، هكذا تفعل كل عائلات غزة، نحن لا نذهب للمطاعم.. نعمل الجبن من الحليب، ونشتري الحمص حبوبا، نضعه في المياه طوال الليل، ثم نسلقه ونطحنه.. فلم نشتري أبدًا المعلبات". تبتسم ابتسامة مستنكرة ثم تكمل: "تلك المعلبات التي يتمناها الناس هناك الآن!".

مرت الأيام، ودخلت بعض المساعدات إلى غزة عبر مصر بأعداد أكبر. وفي مكالمتها التالية مع "وجدان"، عرفت "حنين" أن "علبة الجبنة الواحدة صارت متاحة بالسوق بـ15 شيكل ما يعادل أكثر من 200 جنيه مصري". ما يعني بالنهاية أن ما ترسله "حنين" وأسرتها إليهم لا يكفي بأي حال شراء منتجات من السوق.

فتحكي "حنين" أنه: "حين ترسل إليهم حوالات مالية عبر تطبيق بنكي - بنك فلسطين، وهو أشبه بالمحافظ الإلكترونية.. يذهبون لتجار معهم سيولة ليعطوهم المال في مقابل ذلك يحصلون على نحو 30 – 50 % عمولة، فإذا أرسلت 200 دولار، تصل إليهم 100 فقط".

فتقطع "وجدان" كلامها، لتقول "إن هذه الـ100 دولار لم تشترِ سوى 5 كيلو طحين!".

في تلك اللحظة، أحست "حنين" شيئا آخرا ربما، فهي قررت على الفور مواصلة عملها. سحبت هاتفها، وجلبت منشور الإعلان عن ورشتها من سلة الحفظ وضغطت سريعًا لتنشره على حسابها أمام الجميع، وتراقب كيف سيمضي الأمر.

الآن - في بيتها المستأجر بالقاهرة، والذي يشبه دارهم بغزة، حيث الارتفاع لثلاث أدوار والحديقة الصغيرة، تقف "حنين" عند رأس الطاولة، تتظاهر بالضحك، وقد بدت كأنها تحاول أن تتغافل قليلا عما يشغلها ويؤلمها، لتُفهم من تفاعلوا مع منشورها وحضروا اليوم، قصة "المقلوبة" أولا: "هذا تاريخنا وتراثنا وثقافتنا".

فالمقلوبة، التي تمزج في مكوناتها الأرز وقطع البطاطاس المقلية وشرائح الباذنجان المتعرجة مع الدجاج المُتبل، أصلها يعود إلى زمن صلاح الدين الأيوبي، حين قدمها المقدسيون له عندما فتح القدس. ويٌقال إنه من أسماها بهذا الاسم، لأن مكوناتها تُقلب على الصحن.

وفي زمن آخر، صارت رمزًا لمقاومة الاحتلال. فعندما أبعدت القوات الإسرائيلية فلسطينيات من المسجد الأقصى في شهر رمضان قبل سنوات؛ افترشوا الأرض لتحضيرها عند أحد أبوابه. ثم شهد مرة أخرى تجمعات كبيرة لتناولها داخل باحاته، حتى وصفها الشاعر الفلسطيني سامر عيسى بـ"مقلوبة من ريح القدس ريحتها تغيظ العدو".

تنهي "حنين" تعريفها للمقلوبة ثم تُشمر أكمامها لتبدأ في تحضيرها أمامهم، فتكشف لهم عن أول أسرارها"، إنها التوابل التي تضفي على الأكلة النكهة الفلسطينية. الأمر الذي يرهق "حنين" في مصر، فلا التوابل نفسها كالموجودة في غزة ولا زيت الزيتون نفسه.

فتلجأ لأصدقاء يأتون لها بتوابل تسمى "السُماك" من الأردن أو تشتري من متاجر سورية في مصر، وأخيرًا وضعت وصفتها الخاصة لتوابل الدجاج وطحنتها. وأختبرت كل هذا مرة بعد مرة حتى يقترب المذاق من المعتاد عليه بغزة.

تذوقت توابلها أولا للتأكد من دقتها. ثم مررت على الجالسين أمامها. بدأت بـ"منال"، المغربية، وهي كاتبة ومخرجة. تقول: "دائمًا كنت أسمع عن المقلوبة، فأردت أن أعرفها أكثر واقضي وقتا مع عائلة فلسطينية".. يليها "سيرا"، التي جاءت من موريتانيا إلى مصر لتدرس اللغة العربية، وجاءت إلى مطبخ حنين "للتعرف من خلال المقلوبة على الثقافة الفلسطينية". ثم "نور"، المصرية التي وقعت في غرام "المقلوبة" حين تذوقتها لأول مرة في الأردن، فأخبروها "أن تتعلمها من شخص فلسطيني". ومن بعدهم، "فريدرك" من فرنسا وصديقته "إيميليا" البريطانية، وهما سائحان، صادفهما إعلان الورشة على "إنستجرام"، فخطر في بالهما: "لما لا؟، سنجرب ونتعرف على فلسطينيين".

ينتظرون جميعًا حتى تستوي المقلوبة. فترن هواتفهم لتنبههم بأخبار عاجلة، أضاءت الشاشات، بالفرنسية والإنجليزية والعربية. يفحصونها من الخارج، فتتحدث سطور غير مكتملة عن "خطة إسرائيل للسيطرة على مدينة غزة وترحيل سكانها". بينما، تركت "حنين" هاتفها بعيدًا لتركز فيما تنجزه.

وبعد حوالي ساعتين من التحضير، انتهى طبق المقلوبة.. مد الجميع أياديهم ليتناولوا من الصحن، التقطوا الصور ثم غادروا.

أعطت المقلوبة "حنين" هدنة قصيرة لثلاث ساعات، لتعاود بعدها لمكالمتها مع عائلتها بغزة وشقيقة زوجها "وجدان"، فبلغها خبر استشهاد ابن عمها "محمد فرحات" وإصابة ابن عمها الآخر بالطريق جلب مساعدات بالقرب من دير البلح (المحافظة الوسطى).

صار هذا الشاب ضمن أكثر من 1300 شخصا قتلوا أثناء بحثهم عن الغذاء منذ 27 مايو، منهم 859 قتلوا في محيط "مؤسسة غزة الإنسانية" التي تتولى مسألة التوزيع بمباركة أمريكية – إسرائيلية، و514 آخرين على امتداد طرق قوافل المساعدات (حسب الأمم المتحدة).

خرج صوت "وجدان" من الهاتف خافتا متهدجًا، تصارح "حنين" بخوفها، فتخشى أن تلد وسط استمرار كل ذلك.. على الناحية الأخرى، تستمع "حنين" دون أن تنطق بكلمة وكأن كل الكلام انتهى أو بات لا يفيد ولا يمكنه التهوين.

في نفس الوقت، انهالت الرسائل عليها من ضيوفها الذين مشوا للتو: "شكرًا على هذه الليلة"، "نتمنى أن تتكرر مرة أخرى!".. ترد عليهم. ثم تقول، وعيناها امتلأت بالدموع: "جسمي هنا، أعمل وأحاول أن أتأقلم، لكن روحي هناك".

اقرأ أيضا:

سليمان العبيد.. هدّاف غزة الذي قتلته إسرائيل بـساحة المساعدات (بروفايل)

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان