إعلان

هل أراك؟| (6).. ليلة عيد في ديار فلسطين (بروفايل)

05:51 م الجمعة 31 يوليه 2020

القدس

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد:

استقلت السيارة رفقة صديقاتها وراحت؛ ألفت الصبية بحر غزة فقررت القيام بنزهة مختلفة إلى الجوار، الأيام عيد وبلوغها الخامسة عشر عامًا يسمح لها بالانتقال. كان الاحتلال رابض على الأرض لكن الحواجز وتجزئة المدن لم تكن أقيمت بعد، أما الخوف فلا مكان له، كالمعهود. مرت الغزاوية بنابلس، تناولت "الكنافة" أشهى ما اُختصت به المدينة الجبلية، وقفت برام الله، نزلت عند "أبو جورج" أحد أشهر مطاعم الشاورما، قبل أن يبرد جوفها بمثلجات "رُكَب" المعلم المميز لمدينة الضفة الغربية، وفي القدس انتهى العيد، طافت الصبية بشوارع المدينة العتيقة، أكلت مخبوزة "التمرية" لمرة أخيرة وما غادرها المذاق من يومها.

العيد قبل اتفاقية أوسلو غير، والحياة بعد عام 1993 ليست كسابقها، كانت النكبة قائمة بوجود الاحتلال، واللاجئين داخل وخارج البلاد، لكن الفلسطينيين واصلوا المسير، تمرسوا اقتناص حقهم مع كل مناسبة، يذهب أهل القدس ورام الله لبحر غزة، يتنعمون بأسماكه الطيبة ورمال الشواطيء الأبية، ويزور الغزاويون مناطق الضفة الغربية، تَقرُ أعينهم برؤية لجبال والطبيعة الخلابة، ينهلون من تفاصيل موطنهم المحتل، إلا أن تبعات النكبة لم تتركهم.

مقابل الاعتراف بالسلطة الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير، قُطعت أوصال فلسطين، أُغلقت المدن على أهلها، انقطع التلاقي بين الأسر القاطنة في بقاع متفرقة، وُضعت نقاط الارتباط الإسرائيلية على الطرقات، بات التنقل دون حواجز تفتيش وتصريح عسكري طيف ذكرى لمن عاش في فلسطين حتى اندلاع انتفاضة عام 1987.

يبدو حلول العيد كئيبًا، لكن الفلسطيني يقيمه في الديار رغم كيد المحتل؛ في المساء تتجافى عيون الصغير عن النوم، مثل جميع الأطفال يستعد لشيء من البهجة، يحلم بما يشتري من ألعاب، وتلك الأراجيح المقامة كل مناسبة ويترك إزالتها أثر حزين في النفس، يدندن ما حفظه "بكرة العيد وبنعيد وبندبح بقرة السيد.."، وبالصباح يصطف مع أخوته لتقبيل يد الوالد، يُظهر التهنئة، فيما يتوق للحصول سريعًا على "العيدية"، فما زال دون العاشرة، لم يتجاوز بعد ذلك العمر ليخجل من تلقى الأموال كتقليد يعرفه فتيان فلسطين.

1

إلى الساحات تنهدر الجموع، الزينات معلقة حال أيام رمضان، تتهيأ المساجد الكبرى لاستقبال مصلين العيد، في القلب من الِقبلة يحتضن "الأقصى" المقدسيين وأصحاب الحظ الطيب ممن بحوزتهم تصريح الزيارة، تتعالى البالونات وحبال الأنوار المضيئة مع المساء، وتمتد الأيدي بالحلوى للصغار والكبار، وفي وسط غزة تمتلئ باحة الجامع العمري، فيما يتباهى الحرم الإبراهيمي بالوافدين من أهل الخليل، مَن شقوا الطريق إليه رغم مشقة القدوم بعبور بوابات إلكترونية تحيطه وتفتيش يبلغ حد الإهانة أحيانًا.

في فلسطين، لا يطرق العيد الأبواب فرادى، إن كان للعائلة ديوان –بيت الجد أو كبير الأسرة- اجتمعوا فيه، تحلقوا حول الكحك الحاضر على المائدة بعيد الفطر والأضحى، وربما تناولوا "المُعلاق" المحضر من كبد أو قلب الأضحية بعد الذبح، وإذا لم يكن هناك ملتقى، بات على كل رجل في البيت أن يؤدي الواجب المتوارث أبًا عن جد؛ يطوف على ذوي الأرحام من النساء، يقصد ديار الابنة، الشقيقة، الخالة والعمة، والجدة لو مازالت على قيد الحياة، أحيانًا يبلغ 50 باب، يلقي التحية والمعايدة ويحظى بكوب من القهوة ثم يمضي، مع كل طرقة على دار يلملم حبة لعِقده، إلا مَن حال الاحتلال بين الوصول إليها.

2

مازالت الرصاصة الإسرائيلية التي تلقاها صدر ابن مدينة الخليل وقت انتفاضة الثمانينيات، تمنعه من الذهاب إلى القدس لزيارة ديار خالته وأبنائها حتى بالأعياد، وُضع من حينها على قائمة الاحتلال السوداء، وبات يكتفي بمكالمة هاتفية لأقاربه القاطنين على بعد نحو 30 كيلو مترًا منه.

دومًا ما يتمسك الفلسطيني بفرصة لم الشمل؛ في العيد وقفت أسر على السلك الفاصل بين رفح المصرية والفسلطينية، فَصل الاحتلال بين العوائل منذ عام 1982 بعد اقتسام المدينة، وصارت المعايدة بالنداء على الحاجز "كيف حالك يا جد؟"، تدوي على الحدود، فيما يرفع الأب صغيره ليراه الأعمام والأقارب بالجانب الآخر.

في العيد أيضًا لا يُنسى قبر شهيد، ولا ذكرى أسير، ولا يغفل صغير عن تلقي الدرس المتوراث من زمن غير معلوم؛ يدور أطفال العائلة على الأقارب، يحملون حقائب الأضحية وعلى كل منها اسم قريب، يتحملون مسؤولية التراحم وربط الوصال، قبل الجلوس على مائدة طعام فلسطيني خالص من فتة –سريد- مخلوطة بالرقاق ومزيج يخالف المعروف في الدول العربية (ثوم، فلفل، ليمون)، أو ذات طابع أردني يعرف باسم "المنسف"، نظرًا لوقوع بعض المناطق حال القدس تحت الوصاية الأردنية بعد 48.

في مثل هذه الأوقات تسكن البهجة الديار، ويصير العيد اثنان إن كان بها حاج، تحل الفرحة باكرًا بأرجاء الحي، كأنما عُرس، يقدم الجيران والأصدقاء، يقيمون "التحنين" لوداع الحجيج، يغنون ويهللون بكلمات معروفة عن الأجداد، ولو من أهل القدس اكتملت الرحلة بنظرة وداع برداء الإحرام لأولى القبلتين. تبلغ السعادة المدى ليس فقط للذهاب لأرض مكة، بل لتمكن فلسطيني من كسر قيود الاحتلال.

على أرض فلسطين، يقام العيد تحت أي ظرف، لا يمنع احتلال أو وباء من إعلان الوجود، تُرفع تكبيرات العيد، تُفتح المساجد خصيصًا رغم غلقها، تستعيد الصبية يوم أن زارت رام الله عام 2016 وهي بالأربعينيات من عمرها، ووجدت ذكرياتها حاضرة، فيما يرفع ابن الخليل الهاتف ليصل خالته في القدس المحروم منها لنحو 30 عامًا. أكثر من 13 مليون فلسطيني داخل وخارج الأراضي المحتلة يعلنون بعيدهم كسر الحواجز ورفض الصعاب، يجددون الحلم بالعيد المنتظر، يوم أن يعود الغائب إلى الديار.

*القصص المذكورة رواها فلسطينييون داخل وخارج الأراضي المحتلة لمصراوي: وسام الريس ودكتور ميرفت أبو غزال، رائد الشيوخي، وأخرين تناولوا حكاياتهم مع العيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

اقرأ أيضًا:

هل أراك؟ (1).. حصّادين الأرض المقدسة (بروفايل)

هل أراك؟ (2).. كانت تسمى عيون قارة الفلسطينية (بروفايل)

هل أراك؟ (3) زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)

هل أراك؟ (4) يوم أن حملت معلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)

هل أراك؟| (5).. الثلاثاء الأحمر في سجن عكا (بروفايل)

فيديو قد يعجبك: