إعلان

ثوابت العقد الاجتماعي في مصر

د. أحمد عبد العال عمر

ثوابت العقد الاجتماعي في مصر

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 12 أكتوبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

عرفت مصر أول دولة في التاريخ، وأقدم شكل للسلطة المركزية قبل 32 قرنًا من الزمان، وقد جاءت تلك السلطة نتاجًا للظروف البيئية التي جعلت الزراعة المعتمدة على مياه نهر النيل عماد الحياة والإنتاج والاقتصاد؛ ولهذا كان قيام السلطة المركزية ضرورة أملتها الظروف البيئية لضمان الاستفادة القصوى من مياه النهر وتوزيعها بعدالة بين المواطنين لعمارة الأرض وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

وقد عُقد لواء تلك السلطة لأقوى الرجال وأكثرهم حكمة وسيطرة ونفوذًا وعدلًا، ولعبت طبيعة مصر السهلة المنبسطة دورًا فعالًا في تمكين هذا الحاكم القوي من بناء وتقوية مؤسسات الدولة، وبسط نفوذها على الجميع، وعقاب المتمردين والخارجين على القانون.

بهذه المقدمة افتتح المؤرخ والمثقف الوطني الراحل الدكتور رءوف عباس (1939 – 2008) دراسته القيمة عن "السياسة والحكم في مصر منذ تاريخها القديم حتى حكم أسرة محمد علي"، التي نُشرت ضمن كتاب "حكمة المصريين" الصادر عام 2000، عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

وقد عرض الدكتور رءوف عباس في هذه الدراسة لتكوين وشكل السلطة في مصر عبر المراحل التاريخية المختلفة، محددًا أبرز ملامح وثوابت العقد الاجتماعي بينها وبين الشعب المصري، وكيف كان تعامل الشعب المصري مع السلطة الحاكمة في أزمنة التوافق والقبول، وفي أزمنة التمرد والثورة.

وقد جعل نقطة البداية في دراسته القيمة من مصر القديمة، التي عرفت أول دولة وسلطة مركزية في التاريخ الإنساني، وقد ارتبط ظهور تلك السلطة بتقسيم الأرض الصالحة للزراعة، وحماية وإدارة مياه النهر، وتحقيق عدالة توزيعها، وضمان أقصى استفادة منها لتحقيق العمران، وصنع تقدم مصر، وضمان وحدتها واستقرارها الاجتماعي والسياسي.

وهذا يعني أن نشأة السلطة المركزية في مصر القديمة ارتبطت في بداياتها الأولى بنهر النيل، وأن الحاكم القوي الذي خضع له الجميع في ذلك الوقت كان منذ البداية فيما يبدو "مهندس ري" استمد شرعيته في قلوب وعقول المصريين من قدرته على تنظيم عملية الري، وحماية مياه النهر، وتحقيق العدالة بين الجميع.

ويذكر الدكتور رءوف عباس أن النخبة الحاكمة المصرية سعت في فترات تاريخية لاحقة إلى تدعيم مكانتها وسلطتها المركزية بين الشعب المصري من خلال الأساطير التي أضفت عليها صفة القداسة، وأوجدت لها نسبًا إلهيًا، وجعلت حقها في الحكم والطاعة مستمدًا من الآلهة؛ وبذلك اقترنت طاعة الحاكم عند المصريين بطاعة الآلهة والعكس صحيح.

وقد قبل الضمير الجمعي للمصريين السلطة المركزية ذات الطابع الإلهي طوال عشرات القرون، وتوافق المصريون مع هذه السلطة ورموزها وأساطيرها طالما كانت توفر لهم وبلادهم الأمن والحماية، وتنظم توزيع مياه النهر، وتيسر لهم العيش، وتنشر العدالة بينهم.

لكن بمرور الزمن تحول المصريون بالنسبة للسلطة في فترات تاريخية معينة إلى مجرد أدوات إنتاج، وظيفتهم فلاحة الأرض لتتدفق خيراتها على الخزانة العامة، ويُعاقبون ويُقومون بالعصا وفقدان الحرية إذا تقاعسوا أو قصروا في أداء واجباتهم أو ارتكبوا ما تعده النخبة الحاكمة جرمًا يستحق العقاب.

وفي هذه الظروف الجديدة لم يكن أمام المصريين لدفع الظلم عنهم سوى الشكوى (كما فعل الفلاح الفصيح)، وأن يستعينوا بعدالة السماء على ظلم أهل الأرض كما يفعل كل المستضعفين. وهذا لا يعني بالمطلق أن المصريين تحملوا ظلم أو فشل السلطة بلا حدود، فقد كان هناك حد أقصى لاحتمالهم إذا تجاوزته السلطة، قاموا ثائرين في وجهها كالبركان.

وفصل المقال، أن السلطة المركزية ميراث مصري أصيل فرضته طبيعة أرضها والتهديدات والمخاطر التي تستهدفها، وأن شرعية السلطة في مصر القديمة كان مصدرها قدرتها على توفير الحماية للمصريين، وتيسير العيش لهم، وتحقيق العدالة بينهم، وحماية مياه النهر، وتنظيم توزيعها وتحقيق أقصى استفادة منها.

وأظن أن هذا الميراث لا يزال حيًا بيننا في مصر المعاصرة، وأن العقد الاجتماعي في مصر بين الحكام والمحكومين كما وضعت صيغته الأولى في مصر القديمة، والذي تأسس على واجب السلطة في حماية حدود ومصالح البلاد، وتيسير العيش للمصريين، وتوفير الحياة الكريمة لهم، وحماية مياه النهر، لا يزال هو الحاكم لعلاقة السلطة والشعب في مصر حتى اليوم، وهو الضامن لوحدة وتماسك الجبهة الداخلية واستقرار الدولة والمجتمع.

إعلان

إعلان