إعلان

أهمية أن نبكي على اللبن المسكوب مجددًا

أهمية أن نبكي على اللبن المسكوب مجددًا

محمود الورداني
09:00 م الخميس 09 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كنت قد كتبتُ هنا عن كتابيّ د. حسين فوزي اللذين قامت هيئة قصور الثقافة بإعادة نشرهما أخيرا في سلسلتها الشعبية ذاكرة الكتابة، وكانت " دار المعارف" قد أصدرتهما بالفعل من قبل في عدة طبعات خلال ستينيات القرن الماضي، وهو ما يوجب أن نعيد فتح ملف دار المعارف التي تصارع للبقاء على قيد الحياة، بعد أن نهشها الناهشون على مدى عدة عقود منذ خطيئة تأميم الصحافة.

لم يعرف تاريخ دور النشر في مصر، بل وعلى المستوى العربي، دارًا للنشر بحجم وتأثير ونجاح دار المعارف التي تأسست عام 1890 دارًا خاصة، أي أن عمرها الآن يقترب من 130 عاماً. ومنذ تأسيسها اختارت أن تكون دارًا رصينة ومحترمة، وتخصصت في نشر " المعارف" المختلفة، وأنشأت عشرات السلاسل وأصدرت آلاف الكتب الجادة المحترمة، واستقطبت كبار وأساطين الكتاب والمفكرين مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وشوقي ضيف. اختارت أن تكون دارًا للكبار، وتنوعت سلاسلها المنتظمة في التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع والآداب والتاريخ، فضلا عن سلاسلها الأخرى المتخصصة في النشر الجامعي، وسلاسل أخرى لنشر التراث والمعاجم (يكفي أنها تصدت مثلا لتحقيق ونشر لسان العرب لابن منظور) وسلاسل للترجمات الأدبية.

توسعت دار المعارف خلال مسيرتها، وتمكنت من افتتاح عدد كبير من المكتبات منافذَ للتوزيع في القاهرة والمحافظات، بل وخارج مصر، وربما كانت هي الدار الوحيدة التي كان لها مكتبة ضخمة في بيروت استمرت حتى الحرب الأهلية اللبنانية.

وعندما ارتكب النظام الحاكم خطيئته التاريخية بتأميم الصحافة، بدأ العد التنازلي لازدهار الدار العريقة التي كانت منارة كبرى للنشر والثقافة، تدار بكفاءة على نحو حقق لها المكاسب المادية الضخمة، ما أتاح لها التوسع والانتشار، مع الحفاظ على تميزها في استقطاب القامات الكبيرة المؤثرة من الكتاب والمفكرين.

وشأنها شأن غيرها من دور النشر والمؤسسات الصحفية عانت من تدخل الدولة الفظ، وبدأت تعاني من القرارات السريعة غير المدروسة التي يتخذها ناقصو الكفاءة، فضلا عن المحاولات المحمومة لتحويلها إلى أداة من أدوات الدعاية للنظام. ولسبب غامض ظلت دار المعارف تحديدا تابعة بشكل غير مباشر لمؤسسة الأهرام، حتى أن رؤساءها كانوا دائما من الأهرام، ولا أدري هل كان ذلك بسبب نفوذ الأستاذ هيكل. ومع كل ذلك ظلت دار المعارف تحافظ على الحد الأدنى من تماسكها، ولم يكن من السهل هدمها.

وجاءت الضربة الأقوى بعد حرب أكتوبر، عندما قرر السادات إنشاء مجلة تعبر عن عهده الجديد بعد الانتصار، والسادات كما هو معروف كان يعتبر نفسه في الأصل صحفيا ضل طريقه إلى مؤسسة الرئاسة. واستقدم الكاتب الراحل أنيس منصور ليصدر مجلة أكتوبر التي استنزفت ونهبت دار المعارف، وبعد سنوات قليلة من الخسارة المتوالية لأكتوبر التي كانت أداة من أدوات الدعاية لنظام السادات، بدأت الدار في الترنح.

وخلال حكم مبارك توالت الضربات وتوقف النشر أو كاد، وها هى الآن في النزع الأخير هى ومجلة أكتوبر.

أدعو إلى البكاء مجددًا على اللبن المسكوب ولن يقود التحقيق في الخطايا والجرائم التي ارتكبت إلى أي نتيجة. ما أدعو إليه هو محاولة إنقاذ آلاف العناوين التي امتلكت الدار حقوق نشرها، وإذا علمنا أن حقوق النشر تسقط بعد خمسين عاما، فمعنى هذا أن في حوزة الدار آلاف العناوين التي آلت ملكيتها إلى الشعب، وليس مطلوبا من أجل إنقاذها إلا إعادة نشرها مثلما فعلت هيئة قصور الثقافة وأعادت نشر عدد من عناوينها مثل كتابيّ د. حسين فوزي.

والسؤال الآن: من يتصدى لتلك المهمة؟!

إعلان