إعلان

فندق القصير.. بوابة مدينة "الشيخ والخواجة"

06:57 م الأربعاء 10 أغسطس 2022

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

قصة – تصوير: مارينا ميلاد

الحرارة مرتفعة. يختفي السكان من المدينة ليهربوا من قسوتها لدرجة تجعلها مدينة أشباح خلال ساعات الظهيرة. هكذا اعتادت "القُصير" الصغيرة القابعة على البحر الأحمر.. وفي زاوية أخرى من مشهدها الساكن هذا، يطل شاب أسمر من نافذة مشربية خشبية تتوسط مبنى حجري، ليُحَدق في البحر الذي يفصله عنه أمتار قليلة.

هذا المبنى الذي يبدو عليه عمره الطويل، هو فندق القصير، الفندق التراثي الوحيد بالمدينة القديمة. وذلك الشاب الأسمر، هو مصطفى سباق، مالكه، لكنه ليس في صورة "مالك الفندق" النمطية إنما مُغامر انتدب نفسه لمهمة صعبة.

صور بالأبيض والأسود مُعلقة على حوائط الفندق في مواجهة المجتازين بوابته. في هذه الصور أشخاص ومباني تُخبر من يدقق فيها بالكثير. فتجمع بين "خواجات" يرتدون قبعات جانبهم شِيخ بـ"عِمة" و"قفطان" ومصريين ببشرة سمراء. تُظهر إحداها مبنى على طراز أوروبي مكتوب عليه بالإيطالية، يجاورها أخرى لموكب يحمل كسوة الكَعبة.

تلك "القٌصير" التي جمعت كل شيء ويحاول "مصطفى" أن يُعرفها لنزلائه في كل ركن من أركان الفندق.. ومن يريد أن يعرف أكثر عليه أن يٌبحر أكثر.

"مصطفى" البالغ 34 سنة لم يرغب لمدينته أن تُعرف لمن يجهلها بأنها "مدينة تلي الغردقة"، لكنه يراها تستحق مكانًا أقوى على الخريطة. فيقول: "شغفي هو القُصير.. أن أسوق لها وليس لنفسي أو الفندق".

ولـ"مصطفى"، خريج كلية التجارة، حكايتان مع هذا المكان، واحدة بعيدة لم يكن طرفًا بها والأخرى قريبة وهو بطلها.

حكايته القريبة بدأت منذ 6 سنوات، عندما عَمل في مشاريع تنموية وثقافية في مدن البحر الأحمر غيرت تفكيره ونظرته، فلمع في عينيه هذا الفندق الذي يعود إلى بداية القرن الماضي.

في ذلك الوقت، كان الفندق في حالته السيئة. يستأجره أحد الأشخاص، وقد صار في عهده مٌهملا وشبه متوقف – بحسب "مصطفى".

ثم حَل "مصطفى" بدلا من هذا الرجل. أعاد فتح الفندق وبدأ خطته، التي صَعبها قليلا تبعيته لوزارة الآثار منذ عام 2005، حيث أن ترميمه وعمل تعديلات كبيرة يتطلب إجراءات طويلة الأمد. فاكتفى "مصطفى" بأعمال النظافة، التي يصفها بـ"الشاقة"، إضافة إلى تغيرات للأثاث لتتماشى مع هويته وهيبته أيضًا.

6 غرف يتكون منها الفندق مُقسمة على طابقين، و6 لافتات أمام كل واحدة منها. تلك اللافتات صنعها "مصطفى" لتحمل أسماء بالعربية والإنجليزية، تحكي كل واحد منها حكاية عاشتها المدينة. فيقول إنه بذلك "يحاول تمثيل القُصير في هذا المكان الصغير".

الغرفة 105 يجاورها اسم "الميناء"، ويقصد بها ميناء القُصير القديم.

فتاريخ هذه المدينة – كما يذكره موقع محافظة البحر الأحمر - يعود إلي القرن الـ15 قبل الميلاد، حيث استغلت الملكة الفرعونية حتشبسوت المدينة كقاعدة لانطلاق رحلاتها البحرية الشهيرة إلي بلاد بونت.

وفي تلك العصور القديمة أيضًا، كانوا ينقبون فيها عن الذهب وينتقلون به إلى قنا في طريق جاف قَصير واقع بينهم؛ عُرف باسم "طريق الآلهة" أو "وادى الحمامات" فيما بعد، ولازال يحمل بقايا منحوتات صخرية وكتابات على الجدران.

لاحقًا؛ صار اسمها "ليوكوس ليمن" أي "الميناء الأبيض"، لما لديها من ميناء تجارياً مهماً في عصر الإمبراطورية الرومانية. واستمرت أهميته حتى العصر الإسلامي، فكان محطة للسفن التجارية، وأحد الموانئ الرئيسية التي يعبر منها الحجاج إلى الحجاز.

وقد أسماها العرب آنذاك "القُصير" كونها أقصر طريق يربط بين ساحل البحر الأحمر والصعيد.

وأصبح للقُصير احتفاليتها الخاصة المعروفة بـ"المَحمل"، وهو اسم غرفة الفندق رقم 101.. فالمَحمل هو مشهد الجمال التي تجوب المدينة احتفالا بوصول كسوة الكعبة إليها لتتحرك إلى الحجاز، المناسبة التي لازال يحتفل بها أهلها في ليلة النصف من شعبان.

ولحماية هذا الميناء وضمان سلامة الحُجاج، أُنشئت القلعة المُدعمة بأربعة أبراج في زمن الدولة العثمانية، وهي حِصن القُصير ومعلمها المهم الباقي حتى الآن.

بساحة هذه القلعة، قارب خشبي مُلقى بجانبه لافتة عن صناعته التي اشتهرت بها القٌصير قديمًا وصور لسفن شراعية كبيرة.. هذه السفن كانت تعرف طريقها إلى البحر في رحلات صيد تمتد لأشهر وعُرفت بـ"القطاير"، الاسم الذي اختاره "مصطفى" للغرفة 106 بفندقه.

لم يعش "مصطفى" زمن ازدهارها لكنه يذكر أنها "كانت صعبة وخطرة، وعودة الصيادين منها بمثابة يوم عيد للمدينة".

العصر الذهبي للقصير بكل ما فيه لم يستمر. فخط السكك الحديدية الذي ربط بين السويس والقاهرة عام 1850، سَحب منها البساط لأن التجار والحجاج اتجهوا إلى ميناء السويس لسهولة السفر إليه، ثم كانت الضربة الأخيرة هي قناة السويس، التي قضت على أهميتها التجارية – وفقا لموقع المحافظة.

لكن الحظ حَضر إليها مرة أخرى عام 1912 مع تأسيس شركة فوسفات القصير على يد الإيطاليين، والتي استمرت حتى الثمانينات.. الفترة التي غيرت وجه المدينة وروحها وسكانها.

ذلك التأثير الكبير انعكس حتى على مسميات غرف فندق "مصطفى"، فالثلاثة الباقية منها حملت أسمائها من ملامح هذه الفترة وهي: "الشركة"، وتعني شركة الفوسفات، "الحي الإيطالي"، حيث البيوت والمباني التي تركوها، و"التلفريك"، الذي بناه الإيطاليون لنقل الفوسفات من الميناء إلى الشركة.

هنا بدأت الحكاية البعيدة لـ"مصطفى" مع الفندق، والتي لم يكن معاصرا لها.

فقبل أن يصبح فندقًا، كان بيتًا لجده لوالدته "الشيخ توفيق جبران"، شيخ مشايخ قبيلة العبابدة بالبحر الأحمر، وهي أشهر القبائل الممتدة من الصعيد حتى الساحل.

ولهذا المُسمى ذو الشأن بالمنطقة، اتفقت الحكومة مع "الشيخ توفيق" على الانتقال إلى القٌصير للعمل مع شركة الفوسفات الجديدة وتنظيم العلاقة بينها وبين السكان المحليين، الوظيفة التي شبهها "مصطفى" بــ"إدارة الموارد البشرية" (HR) حاليًا.

الشيخ توفيق هو نفسه الشيخ الواقف وسط الأجانب في الصور التي علقها "مصطفى" على جدران فندقه. لم تكن كلها صور عامة للمدينة كما يذهب الظن للوهلة الأولى، إنما صور جده، الذي يعرفه كل كِبار المدينة وحكوا له الصورة التي عرفوه بها: "قويًا، حازمًا، بيته يعج بأهل البلد كأنه مبنى المحافظة".

كان حسين الجوهري، واحدًا من عمال المناجم العاملين مع تلك الشركة.

فصل طويل في تاريخ القُصير شكلته الشركة، ولعل أبرز نتائجه كانت حياة المناجم، حيث مساكن العمال التي نقلتها إلى الجبل ليبقوا بجوار مكان عملهم في استخراج الفوسفات.. بيوت من الحجر وأخرى مغارات مقسمة لـ14 منطقة لها أسماء تميزها وبكل منطقة نحو 300 أسرة – وفقًا لطه الجوهري، نجل "حُسين"، الذي ولد بـ"منجم 22" عام 1976.

ورغم أن "طه" لم يبق هناك طويلا، لكنه يتذكر أشياء كثيرة استكمل صورتها بالبحث والحكايات فيما بعد. فيحكي عن المشاركة بين الأسر، التعليم الجيد في المدارس الإيطالية، عن عدم التفرقة بين جنس أو دين، عن السينما المتنقلة والفرقة الموسيقية.

انعقد خيط من الود بين أهل البلد والغرباء. فيذكر "طه" كل ذلك مبتهجًا كأنه يتمنى عودته ويتناسى أمامه كل الصعوبات كمخاطر عمل والده، قلة الخدمات، صفيحة المياه التي يجب أن تكفي الفرد منهم، وصعودهم على الأسرة عند المساء خوفًا من الثعابين والعقارب.

جاء الزمن على القُصير ثانية.. فتأممت هذه الشركة وخفت وهجها تدريجيًا حتى انتهت تمامًا لصالح مصنعين في الحمراوين وسفاجا.. تركت الأسر المناجم وهبطت نحو المدينة واختلط فيها الجميع: عمال المناجم، الموظفون، الصيادون، والقبائل كالعبابدة.

يقول "طه"، الذي صار مدرسًا وأصدر 15 كتابا عن تاريخ المدينة، "حَدث اندماج لا مثيل له"، فتداخلت السمسية ورقصات قبيلة العبابدة مع الفن الصعيدي، حتى أن الطعام نفسه بات يتسع أصنافا أكثر.

وبعد خروج الإيطاليين من القٌصير ووفاة الشيخ توفيق، هُجر البيت وتفرقت العائلة وأُغلق حتى عام 1998. ثم يأتي رجل أعمال سويدي ليقع في غرام المدينة ويقرر استغلال أماكنها التراثية، فيتخذ البيت نموذجًا لفكرته ويرممه ليصبح فندقًا.

قلبت المدينة صفحة عصر التعدين وبدأت صفحة جديدة هي نسخة القُصير السياحية. بُني بها منتجع تلو الآخر.. عاش فندق القصير أو (بيت الشيخ توفيق سابقًا) سنوات جيدة، كان الأجانب فيها أغلب نزلاءه –بحسب "مصطفى"– الذي يقول إنهم "يعرفون القٌصير أكثر بكثير من المصريين".

ذلك قبل أن يسوء وضعه لسنوات طويلة تالية، ثم يتولاه "مصطفى" ويستكمل حكايته.

وكالصياد، كان همه أن يجتذب زائرون. ثم يعلو بنجمات فندقه وتقييمه ويصعد به على محركات البحث. ربما تحقق له ذلك، ونجحت حملته "تعالى القُصير". فيقول "مصطفى": "بدأ المصريون يعرفون المدينة.. كم الزوار الفترة الماضية كان كبيرا جدًا.. ومن لم يأت فيتمنى المجيء".

لم يساعده فندقه على استقبال عدد كبير من النزلاء، لكنه يقول إنه يساعدهم على الذهاب إلى فنادق ومنتجعات أخرى، فهو ليس في منافسة مع الباقين. يعرف "مصطفى" جيدًا نوع نزلائه، وأنهم أشخاص يبحثون عن رائحة المدينة، وتاريخها، وسكانها. نوع لا يهتم بحمامات السباحة بقدر الجلوس أمام البحر، ولا "الشازلونج" بقدر مقاعد المقاهي الشعبية.

لذة أن تكون سائحًا، غريبًا، تتشوق إلى الاكتشاف، هو العرض الذي يقدمه فندق "مصطفى" لزائريه، ما يسميه طه الجوهري "سياحة الثقافة أو القصة" المختلفة تمامًا عن سياحة المنتجعات.

راحت الشمس تنزلق على مهل في القُصير.. خرج الناس إلى الشوارع أو الشاطئ العام قبالة الفندق. في هذا الوقت؛ خرج "طه" من بيته متجهًا نحو جمعية المحافظة على تراث القصير المسؤول عنها، وهي الجمعية الوحيدة المعنية بتراث المدينة منذ 1999.

مر في طريقه على تراث تائه ومُهمل: كشونة الغلال القديمة، قصر الحكم العثماني، استراحة الملك، مقرات القنصليات الأجنبية التي تحولت إلى محال أو بيوت سكنية، ومباني شركة الفوسفات.. يشير "طه" إلى الأخيرة ويقول إن "الشركة الإيطالية تركت إرث كبير". فقد بنت كنيسة، مدرسة، مباني إدارية، ومستشفى.

كل هذه المباني باقية في مكانها، لكنها "في حالة مزرية"-حسب وصف "طه"- عدا الكنيسة، والمستشفى التي أصبحت مقر جمعية التراث التي يقصدها الآن.

صور استكشافات تعود إلى عام 2001 تتصدر مدخل الجمعية.. شاركت فيها مع جامعة ساوث هامبتون الأمريكية. يقول "طه" إن "الأرض هنا ربما لازالت تحمل الكثير.. فالقصير لم تٌكتشف وتأخذ حقها بعد".

لذا يتمنى "مصطفى"، الجالس في فندقه على بعد أمتار من الجمعية، أن تحصل القُصير على نصيبها من الاهتمام، فتُمهد طرقها وتُرمم بيوتها التراثية.

وفي رحلة السعي لخروج هذه المدينة القديمة إلى النور كجيرانها الأكثر شهرة. يبدو أن "مصطفى" يتصدر بفندقه النسبة الأكبر من المحاولات. وكأن هذا المكان لابد أن يكون له دور كما كان أيام جده "الشيخ توفيق".

لكن "مصطفى" لا يسعى أن يكون مثل جده يومًا، فيقول: "أتعلم فقط من سيرته وأجتهد بحسب الزمن الذي أعيشه لأقدم الأفضل لمدينتي". ليصبح لكل منهما زمنه وقصته ومُهمته المختلفة التي يخوضها في القُصير.

اقرأ أيضًا:

من قايتباي إلى الدير الأحمر.. آثار الأجداد في قبضة المناخ

تراث مَحذوف: مبانٍ تراثية خارج "قوائم الحماية"

فيديو قد يعجبك: