إعلان

سيرة الخراب الكبير.. كيف يعيش اللبنانيون في "بلد منكوب"؟ (تقرير)

09:57 م الجمعة 14 أغسطس 2020

انفجار بيروت

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- أحمد الليثي وشروق غنيم:

لم يفق حيدر ناصر الدين من صدمة انهيار الاقتصاد اللبناني بعد وانعكاسها على أسرته في جنوب لبنان، حتى جاء انفجار مرفأ بيروت ليدوي أصدائه في بلدته رغم بُعدها عن مكان الحادث "لبنان بلد حجمه صغير، ومهما كانت الطوائف والوضع المُمزق لما يحصل أزمة كلنا بنشعر فيها"، كان المصاب مُضاعفًا إذ أصيبت ابنة شقيقه في الحادث، تعافت سريعًا غير أن غُصة مريرة لازمت الرجل الخمسيني ولا يشعر بأنها ستغادره قريبًا "من فترة للثانية ييجي مصيبة تخبطنا في قلوبنا، فُرقة وحرائق وحروب واعتداءات إسرائيلية ووضع منو منيح ماديًا".

قبل ثلاثة شهور من إعلان بيروت مدينة منكوبة جراء الانفجار، كان الوضع العام متأزمًا؛ في ظلام دامس شقت الدراجة البخارية الطريق، قبل أن يقطع راكبها الشارع على أحد السائرين، في لهفة هدده، ثم أجبره على منحه كل الأموال التي في حوزته، أدار الراكب دراجته للفرار، غير أنها لم تدر سوى بضع ثوان حتى عاد الرجل أدراجه وهو يبكي ويستسمح صاحب الأموال عذرًا بكلمات تتعثر في قلب الدموع "أنا آسف.. خذ أموالك أنا مش حرامي، لكني في أمس الحاجة لشراء حفاضات وحليب لأولادي"، سار الرجلان سويًا يتقاسمون الأموال ويشترون حاجات الأطفال.. حكاية ضمن مئات المآسي تُعايشها قمر مصطفى عما آلت إليه أحوال اللبنانيون في بضع شهور.

تشهد لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها، انهارت العملة الوطنية بشكل غير مسبوق مصحوبة بتراجع القدرة الشرائية، فيما فاقمت جائحة فيروس كورونا الوضع، وفي الأشهر الأخيرة فقد عشرات آلاف اللبنانيين عملهم أو جرى اقتطاع نسب من أجورهم، وحذرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من أن الوضع قد "يخرج بسرعة عن السيطرة، وسيواجه اللبنانيين خطر الموت بسبب الأزمة"، بينما جاء الانفجار لمضاعفة حجم الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها بلاد الأرز.

30 مايو 2020؛ أسس الدكتور أنيمار شعبان برفقة قريبه حسن حُسنة، مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك باسم "لبنان يُقايض"، خرجت الفكرة بعدما تدهور الاقتصاد وارتفعت أسعار السلع حينما فقد الدولار قيمته "ارتفعت أسعار المأكولات والحليب وحفاظات الأطفال، أردنا ألا يزداد الحِمل على الشعب اللبناني وما يعيش الهّم، لذا أطلقنا الجروب".

تقوم فكرة المجموعة على المقايضة بأشياء قديمة في المنزل أو غير مستخدمة مقابل ما يحتاجه الشخص، بالداخل ثمة أقسام للاحتياجات في المجموعة ما بين أغراض للأطفال أو أغذية ومشروبات أو مفروشات وملبوسات، فيما ازدادت الطلبات على الانضمام عقب الحادث وظهرت منشورات لأول مرة مثل سيدة تعرض قطها لأنها لم تعد تتحمل احتضانه.

منذ تم تدشين المجموعة وانضم لها حوالي 19 ألف عضو، داخل المكان تُعرض مستلزمات مختلفة فيما تكون أغلب الطلبات حصص غذائية؛ سيدة تتنازل عن فساتين السهرة مقابل حليب لأطفالها، أخرى تعرض أحذية وحقائب مقابل "كيلو ملوخية و2 لتر زيت"، وآخر يُقدم لعب الأطفال من أجل الحصول على دواء في المقابل.

سكرين شوت من الجروب مع إخفاء الهوية

كانت مريم لأمين من أوائل المنضمين للمجموعة، شكلت فكرة المقايضة طوق نجاة لها من أجل الحصول على عبوة حليب لطفلتها صاحبة التسعة أشهر، لم تتردد في التنقيب عما لا يحتاجه المنزل فقررت المقايضة بعربة صغيرتها، انتظرت عدة أيام حتى وجدت من يهتم بعرضها "طلبت علبة حليب واحدة لأنني أعلم أن ظروفنا جميعًا تعبانة والعالم هنا ما معه مصاري، لم أرد زيادة الحمل على السيدة التي تواصلت معي".

الحطام أضحى مهيمنًا؛ لذا لم تكف قمر عن البكاء ليلة ما جرى "الانفجار مرعب ما حدا مستوعب شو صار.. الكل اختفى ما تعرف تحت الأنقاض غني ولا فقير، الكل في وقت واحد راح ع المستشفى"، ذكريات الشوارع التي كبرت بداخلها تبدلت ملامحها، وكلما تذكرت تبعات الأزمة الاقتصادية يجن جنونها "يعني ممكن بكرة ولا بعده ما نلاقي خبز، عشان هيك بيقولوا لبنان بلد منكوبة".

طوال 29 سنة هي عُمر قمر لما تصادف شحاذًا أسفل منزلها، دومًا يتواجدون في أماكن عامة، فيما صارت وجوههم مألوفة لأناس كانت حياتهم ميسورة أو مستورين يكفون أحوالهم "العالم بتموت أدامي.. الكل في حاجة ملحة، الدكان تحت بيتي رفوفه فاضية، لبنان بقت ضلمة وشوارعها كئيبة، حتى المزحة تحتها خوف ورعب من بكرة".

علي طفل سوري صغير ظل لسنوات يعمل في محل لإطارات السيارات على مقربة من منزل قمر، كان بمثابة أخ صغير لكل الضاحية، لكنه اختفى قبل شهر، وبينما تمر قمر قرب إحدى إشارات المرور وجدته جالسًا القرفصاء في أسى أمام صندوق يحوي بعض "المناديل الورقية"، لمعت عيناه بالفرحة ثم عاودت الانكسار وهو يحكي لها كيف صارت حياته مؤلمة بعدما أغلق المحل الذي كان يعمل فيه "تخيل اللبنانيين مش قادرين يكفوا روحهم، طيب والسوري والفلسطيني والأثيوبية في الأول كنا نقدر نساعد دلوقتي بالكاد الناس بتكفي نفسها.. ما لنا غير الله".

ردود فعل غاضبة داخل الشارع اللبناني، في مغبة الأزمة الاقتصادية كانت السخرية هي الطريقة المثلى التي يتعامل بها اللبنانيون مع ما يجري؛ على أبواب اللحام/ الجزار يلتقط أحدهم صورة إلى جوار "اللحمة" وهو يقول "هتوحشينا"، لكن بعد حادث بيروت، انفجار اندلع في الطُرقات، هدير من الهتافات لا ينقطع "كُلن يعني كُلن"، حتى استقالة الحكومة لم تُبرد نيران القلوب المكلومة.

تدهور الوضع في لبنان طال الكل؛ في مجموعة "لبنان يُقايض" يشهد مؤسسها على طلبات أسر كانت ميسورة الحال "الآن يتنازلون عن ممتلكات شخصية مقابل بعض الغذاء"، البعض يطلب منه إخفاء هويته "لا يصدقون بأنهم وصلوا إلى تلك المرحلة في حياتهم". ثمة أفكار مختلفة للمقايضة، ليس فقط تبادل السلع والأدوات ولكن أيضًا الخبرات "عرض أحد النجارين خدماته لتصليح ما يحتاجه أي طبيب مقابل أن يكشف على ابنه لأنه ما معه حق الكشف"، يحكي صاحب الفكرة، لذا تم تأسيس قسمًا للصنايعية لتسهيل خدمتهم.

طيلة الأشهر الماضية ظل أنيمار عالقًا في مصر بعدما جاء في مهمة عمل، غير أنه يراقب عن كثب الوضع في وطنه من خلال عائلته،لأول مرة يشهد أنيمار تلك الحالة في بلده لبنان "معقول لبنان الزهر والغنا والفرح يكون غارق في هالكآبة والحزن؟"، صدمة حّلت على أسرته ورفاقه في لبنان "المرحلة التي نعيشها لم تحدث حتى أيام الحرب الأهلية.. الناس في الشوارع مصدومة وبتكلم نفسها، كل الطبقات في لبنان اتأثرت سواء غني أو فقير".

صورة 1

يتابع الطبيب النفسي كيف انهارت أحلام اللبنانيين "حاسين إننا في حلم وهنصحى منه، للأسف المشكلة إنه هيدا مش حلم، دي حقيقة مُرّة بنعيشها"، على مجموعة "لبنان يقايض" تابع زيادة الطلب على الأدوية النفسية والعصبية "لكن للأسف أغلبها غير متوفر، الأزمة لم تؤثر فقط على اقتصادنا لكنها انعكست على مشاعرنا وأغرقتنا في حُزن مُظلم".

"ما فيك تقول للعالم ضلو.. ما فيك تقول للعالم فِلو" تقولها قمر، التي تعمل صحفية، بصوت فتته القهر، مشيرة إلى أن معظم الأسر تبحث عن الهجرة في أقرب فرصة، بينما تعيش صراعًا مع عائلتها "أختي بتدور على أي جامعة برة لبنان تكون منقذها، وأختي التانية مقدمة على فيزا للأردن ومنها تفل وما تعود تاني وأمي عايشة متحسرة بتقول أعملوا اللي تحبوه.. إذا كلنا فلينا هتصير لبنان داعش، وأنا هضل هنا مهما كان".

أكثر من 17 ألف منشور على "لبنان يقايض"، ما بين طلبات بالتنازل عن ملابس في مقابل سلع غذائية أو تقديم الخبرة، يتفاجئ أنيمار أحيانًا بوجود مساعدات بدون مقابل "ناس بتعرض ما لديها دون الحصول على مقايضة"، فيما يتواصل معه يوميًا أصدقائه من دول عربية مختلفة "صديق من مصر أرسل لي هدايا وملابس للأطفال"، يمتّن أنيمار لكل المبادرات الطيبة للوقوف بجانب الشعب اللبناني، يتمنى أن تزول الغُمة قريبًا وأن تعود لبنان لسابق عهدها "بلد الفرح والبهجة".

"قرروا ما يدفعونا دم.. بيدفعونا جوع"، تقول الصحفية الشابة إن ما يجري في لبنان ليس مجرد أزمة اقتصادية فحسب، لكن التناحر السياسي والمكايدة في أولئك الذين ثاروا ضد الفساد في 17 تشرين/أكتوبر الماضي "رجالات السياسة واخدين حقهم بتأمين كويس ودولاراتهم حاضرة، لكن الصبايا والشباب والرضع ما في حدا بينفعهم، بيموتوا من الجوع.. أنا عارفة إني مش هقدر أصمد للآخر، جايز أضطر اشتغل في مطعم، هعيش أيام صعبة بس عندي ثقة إنها بالنهاية هتنحل.. وأنا هفضل موجودة عشان لما تحصل 17 تشرين تاني أكون هنا جنب وطني".

صورة2

لم تركن قمر للحزن، نفضت عن كاهلها الإحباط، مسحت من أمام أعينها مشاهد الجرحى والمكلومين وأخذت تلملم جراح بيروت وضواحيها، راحت مع رفقائها من الشباب ينظفون الشوارع من آثار التفجير؛ يساعدون أصحاب المحال المتحطمة، يبحثون للأسر الملهوفة عن مأوى، ينشدون الأحلام بعودة لبنان بهية كما اعتادوها.

فيديو قد يعجبك: