إعلان

سنوات الحُب والأمومة والفَن.. مصراوي يقرأ دفاتر "عطيات الأبنودي" من داخل منزلها

07:41 م الأربعاء 14 نوفمبر 2018

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- أحمد الليثي ورنا الجميعي:

تصوير-محمود بكار:

داخل آخر منزل عاشت فيه عطيات الأبنودي، ما زالت رائحتها هُناك، تشمها وسط النسخ القديمة لدوريات المجلات الثقافية، تستطيع لمسها حين تُقلّب في خطاباتها المُوجهة لابنتها بالاختيار أسماء يحيى الطاهر عبدالله، وتسمع صوتها حين ترى اسمها مُدونًا على شريط كاسيت مكتوب عليه "عطيات الأبنودي.. سيرة ذاتية"، ويدّق قلبك حين تعرف أنها ما زالت تحتفظ بدواوين الشعر الخاصة بعبدالرحمن الأبنودي، قصة حُبها التي دامت 22 سنة، وتتلمّس ذوقها السماعي حين تعرف أنها مُحبّة لكارم محمود ولأم كلثوم ومحمد منير وأصالة.

في منزل المقطم ما زالت رائحة عطيات تهيمن على المكان، آخر بيت سكنته -لسبع سنوات- مخرجة الأفلام التسجيلية، برفقة أسرة أسماء، ما زالت غرفتها كما هي، تحتفظ بتفاصيلها، بعدسة القراءة الخاصة بها وآخر رواية طالعتها، أعلى سريرها ترتفع شهادة –اختصتها دون غيرها؛ لأنها من مصر- تعود لعام 1996، من المجلس الأعلى للثقافة تكريمًا لها في احتفالية 100 سنة سينما، وإلى جوارها تأنس بصورة مؤطرة لأسماء في الواحد والعشرين من عمرها، وتضع الراديو الذي تسمعه ليلًا قبل النوم.. في ذكراها الأربعين نحكي مقاطع من سيرة عطيات، المبدعة التي ملكها الحب فأملى عليها أوامره، وبالحُب جاءت تلك القوة التي اتسمت بها حياتها المديدة.

1

القصة بدأت من السنبلاوين، عطيات عوض؛ أصغر بنات أسرتها، لها من الإخوة 6، 3 أولاد ومثلهم من البنات، وكانت العادة أن كل بنت في العائلة يأتي دورها في الزواج تترك الدراسة وتركن إلى بيت الزوجية، إلا أن الصغيرة كان لها سرديتها الخاصة، قررت أنها ستكمل تعليمها، بشخصيتها الجادة جدا والتواقة للتفوق والتميز، علاوة على أنها أنهت المرحلة الأساسية والتوجيهية، وهي بنت 15 سنة، وكانت أصغر من دخلوا الجامعة "قدرت تجمع أكتر من سنة مع بعض وده كان متاح وقتها"، تحكي أسماء.

2

كما في أفلامها دوما كانت تبحث عن المهمشين والمسلوبة حقوقهم، لذا كانت كلية الحقوق هي الوجهة –بدعم من والدتها، وكان قرار الانتقال للقاهرة حاسما من قبلها، دون اعتراض قوي من العائلة، وساعدها استقرار شقيقها الأكبر –زغلول- في العاصمة على اتخاذ الخطوة، ولأنها تبحث دوما عن الاستقلالية فنقبت عن عمل في دنيا القاهرة حتى التحقت بوظيفة بالسكك الحديدية "قالتلي إنها اشتغلت في أكثر من حاجة إدارية بينها، بيع تذاكر القطر.. وبالمناسبة اشتغلت بشهادة الإعدادية"، تقول أسماء.

3

لم تنل عطيات راحتها بقدر كاف في منزل الأخ، بسبب زوجة شقيقها "اتخانقت معاها عشان فتحت جواب جالها من غير استئذان.. ومكانوش مرتاحين سوا"، واستقر الحال على مجيء الأم من السنبلاوين للمكوث جوار ابنتها الأقرب لقلبها. ظلت عطيات تتأرجح بين الجامعة والعمل بالسكة الحديد حتى وقعت عيناها على إعلان للمسرح القومي يطلب التقدم لوظائف.

4

ضربت عطيات بالوظيفية الجديدة عصفورين بحجر واحد "كانت بتقول المرتب ضعف السكة الحديد وكمان الشغل في المسرح ممتع"، كان المسرح القومي بوابة الدخول لعالم الفن، وانغمست في تفاصيله، حتى أن دراسة الحقوق صارت على هامش حياتها "خدت الكلية في 8 سنين.. ومكنتش مؤمنة بفكرة الشهادات أكثر من إيه اللي حصلته"، عملت ممثلةً في أكثر من عرض مسرحي، ومساعدةً للإخراج مع كبار الأسماء بينهم، كرم مطاوع، لا تزال مكتبتها تحتضن قصاصات من إسكريبت الحركة الخاص بعرض "زواج الحلاق"، بعد تغيير الاسم الأصلي لمسرحية الكاتب الفرنسي بومارشيه "زواج فيجارو"، الطريف أن الورقة الأولى للمسرحية تحمل إمضاء أسماء الممثلين في كشوف حضور البروفات من بينهم: "حسين رياض- سناء جميل- فؤاد شفيق- حسن يوسف- حسن البارودي".

5

شاركت عطيات في مسرحيات عدة ممثلةً، وكذا كانت ضمن فريق أوبريت الليلة الكبيرة، تزوجت لـ3 سنوات من الفنان مصطفى كامل، مهندس الديكور الشهير، وعلى عكس الشائع، تقول أسماء، إن التمثيل لم يكن يستهوي عطيات الأبنودي، كانت تحكي أن فلسفة التمثيل لا تناسب شخصيتها "مكنتش بعرف أعبر عن المشاعر بأفضل صورة.. ومش حاسة إن التشخيص عن شخصيات تانية شيء صادق 100 في المية"، هكذا كانت تبرر الأمر، وربما كان ذلك سببا واضحا لشغفها الشديد بالسينما التسجيلية، تلك التي لا تفتئت من الواقع شيئا، وإنما تجسده بكل جوانبه، حلوه ومره "كانت بتقول أنا بحب الناس لحم ودم من غير تزويق.. أنا مش عايزة أمثل الناس، أنا عايزة الناس.. محتاجاهم حقيقيين".

6

كانت الدراما جزءًا أصيلًا من حياة عطيات، ليس في أفلامها فحسب؛ فقد عاشت أسرتها دراما من نوع خاص؛ كان والدها من الأثرياء، واحتكم على ميراث كبير من أجداده، لكنه لم يكن شخصا مسؤولاً بقدر كاف، فتبدلت أحوال أسرتهم، من الرغد إلى شظف العيش، واضطرت والدتها لشراء ماكينة خياطة والإنفاق عليها وإخوتها دون الاحتياج للناس "ويمكن ده كان مزروع جواها إزاي يبقى ليها شخصية غير والدها وتكون أقرب للأم المسؤولة المثابرة العنيدة، وتقدر تساعد والدتها".

7

أورثها ذلك العناد مسار حياة مميزًا عن العادي، لذا لم يكن غريبًا أنها حين تصبح طالبة بمعهد السينما أن تختار سكّة الإخراج؛ حيث يؤمّن لها ذلك المجال التحكّم في كافة العناصر "كانت مدركة أن دخول ممثل وعوامل مساعدة في التصوير والتجهيزات ممكن تغير من روح شغلها.. وهي اللي كانت تعمل كل شيء بنفسها من البداية حتى يخرج الفيلم للنور، واختارت الإخراج اللغة البصرية التي تعبر بها عن أفكارها".

8

أهم ما في السينما التسجيلية هو التوثيق، تلك الخِصلة التي امتازت بها عطيات الأبنودي في الحياة مثل السينما، تدون رؤيتها للبشر في أسفارها، تحتفظ بتذاكر الطيران لدول مختلفة فترى من خلالها تطور شكل التذاكر ذاته، وكذا تهتم بمراسلة أسماء من كل عاصمة ترتادها وتطالبها بالاحتفاظ بتلك الخطابات والفاكسات، في أحدها تقول لأسماء "كانت رحلة مرهقة جدا، هنا الجو برد لأنه بداية الشتا، أحبك، وسوف أرسل لك فاكسًا آخر قبل عودتي، رقم غرفتي 855، والتوقيت فيه فرق ساعة أقل من القاهرة، أحبك، ماما، أخبار المذاكرة ايه؟".

9

الصداقة والحُب أمران مهمان في حياة عطيات، فبالصداقة عرفت المخرجة أن زواجها يقف عليه مباركة يحيى الطاهر عبدالله "الأبنودي قال لعطيات أنا مقدرش أتجوزك من غير موافقة يحيى، لأن الاتنين كانوا أصدقاء أقوياء وثالثهم أمل دنقل، ويحيى هيفضل في حياته طول الوقت، ولو متفقش يحيى مع عطيات مكنش هينفع"، حين قابل يحيى عطيات قال لها "لو الأبنودي متجوزكيش أنا هتجوزك"، تشكلت صداقة أخرى بين يحيى وعطيات، تلك العلاقة القوية التي وصلت حدّ أن يحيى عاش في بيت الزوجية مع عطيات والأبنودي لعام ونصف العام، في منزلهما الأول بباب اللوق، وتضيف أسماء ضاحكة "حتى لما سابهم طلع قعد مع عمو كمال الأبنودي فوق السطوح في نفس البيت".

10

التوثيق بالنسبة لعطيات، لم يكن مجرد رفاهية، وإنما طقس تمارسه حتى في أحلك الظروف، فبعد حادث السيارة الأليم لشاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبدالله – والذي نجت منه أسماء وقتها، وبالتحديد في اليوم الثالث لوفاته، سارعت عطيات إلى بيته تُلملم أوراقه وأشياءه، كان الخاطر الذي راودها أنه لن يلتفت أحد لتجميع أشيائه، غيرها، وهي واحدة من أقرب أصدقائه "لما جت البيت أنا جريت عليها وأخدتها بالحضن، سألت أهلي هي مين دي قالولها دي أسماء بنت يحيى، وطلبت منهم إنها تاخدني ترعاني وتتكفل بتربيتي، وأهلي وافقوا".

11

"مكنش فيه أي حد وثق أي حاجة عن بابا، مكنش فيه أي حوارات معاه، عشان كدا هي عملت فيلم أمل دنقل بالدافع ده"، التوثيق والشعور بالخسارة هو السبب في صناعة فيلم "حديث الغرفة رقم 8"، فبعد وفاة يحيى انتبهت عطيات لأهمية توثيق حياة مثلث الصداقة – عبدالرحمن الأبنودي، يحيى الطاهر عبدالله، أمل دنقل - فأجرت حوارًا معه في غرفته بمستشفى ناصر، وعلى مدار سنوات أكملت بقية الفيلم، المتاح على الإنترنت، والذي يبدأ بمقابلة والدته بعد وفاته، صُنع الفيلم بتمويل ذاتي "ماما كانت كل ما تلاقي عندها شوية خام فيلم متبقي تجري تعمل جزء من مشروع أمل دنقل لحد ما طلع للنور"، لذا جاء عرضه عام 1990.

الأماكن أيضًا لها دلالات، كان بيت باب اللوق في السنوات الأولى لزواج عطيات والأبنودي، ذلك المنزل الذي شهد اعتقال الأبنودي، ثُم انتقلا إلى الزمالك بعدما استقرا قليلًا "وقتها حالهم المادي بقى أفضل، الأبنودي بقى شاعر معروف وهي مخرجة أفلام تسجيلية معروفة"، وفي الزمالك عاشت أسماء لما يقرب من ست سنوات، وهناك كان الانفصال أيضًا بعد 22 سنة زواج.

12

وحين حدوث الانفصال كانت عطيات تُجهز بيتًا جديدًا يضمّ الثلاثة في منطقة المُهندسين، إلا أنهما لم يخطيا عتبته "وقت الطلاق حصل تقسيم لكل حاجة، هو ياخد شقة المهندسين وماما تاخد شقة الزمالك، بس كان فيه تعقيدات قانونية، وفي الآخر ماما أخدت بيت السويس".

13

31 جائزة حصدتها الطالبة عطيات الأبنودي عن أول أفلامها التسجيلية "حصان الطين"، ذلك الفيلم الذي استوحت تفاصيله من حكايات رفاق الريف عن سوق دسوق، وورشة صناعة الطوب من طمي النيل وطريقة نقله، هكذا كانت أفكار عطيات تخرج بين طيات حوارات الناس، لا تبحث عن حذلقة أو تنظير أجوف، وإنما من قلب البشر وحكاياتهم "دول اللي بيحاولوا في الدنيا وبيعملوا نجاحات إنتوا مش شايفينها.. نجاحهم في إنهم بيقدروا يعيشوا وينجوا ويكملوا وسط المعاناة والقهر".

منذ البداية استطاعت عطيات حجز مكان واضح لها، كل الأفلام التي جاءت بعد حصان الطين كانت امتدادًا له، كما تذكر أسماء، لا يُمكن فصل أي فيلم لعطيات عن مشروعها العريض المهتم بالبشر، منذ حصان الطين وحتى فيلمها الأخير المعروض عام 2006 وهو "نساء من مصر"، الذي تحكي فيه مشروع عزة فهمي مصممة المجوهرات المصرية، كانت الأفكار بالنسبة لعطيات بسيطة "فجأة تلمع عينها وتقول أيوا هو دا اللي عايزة أعمل عنه".

14

لذا ظلت حتى رحيلها تبحث وراء الأفكار البسيطة بشغف، كان لديها مشروعات حال الموت دونها؛ "عن صناعة الأدوات الموسيقية، كان فيه صديق ليها عازف إيقاع وبيدردش معاها حوالين إنه دوّر كتير عن أداة موسيقية ومش لاقيها، فجأة هي انتبهت وبدأت تسمع أكتر وتفهم الموضوع، ومن هنا جت الفكرة".

حُلم آخر تحكي عنه أسماء "وصف مصر بعيون مصرية، كانت عايزة تعمل عن كل حاجة بتحصل في مصر وتوثقها صوت وصورة، زي كتاب وصف مصر بتاع الحملة الفرنسية لكن بعيون أهلها".

15

كانت عطيات قارئة دؤوبة، مع بداياتها في شوارع القاهرة راحت تبحث عن كُتابها المفضلين واهتمت بلقائهم، الثقافة وسعت مداركها، في سن صغيرة عاشت انطلاق الزخم الثقافي والاتجاه نحو التنوير ورواده، آمنت بشعارات الناصرية وتشربت تفاصيل المرحلة وطبقتها عن طيب خاطر "بس عمرها ما اتعاملت بقدسية مع حاجة غير حقوق الناس البسطاء وحياتهم.. عمرها ما انضمت لحركة أو حزب سياسي.. وصحيح صورة عبدالناصر كانت في أوضتها بس طول الوقت معندهاش أزمة في انتقاد بعض مساراته".

16

حتى آخر عمرها ظلّت عطيات تبحث عن كُتابها المفضلين، حينما قرأت رواية "ولاد الجبلاوي" انبهرت بالفكرة كثيرًا، وهي تجميع شخصيات روايات نجيب محفوظ في عمل واحد، بحثت عن كاتبه إبراهيم فرغلي الذي لم يكن يعيش داخل مصر، عثرت على البريد الإلكتروني الخاص به، وبعثت إليه برسالة، وفي إحدى رحلات فرغلي زار فيها عطيات خلال مرضها، أهدى إليها روايته "معبد أنامل الحرير". فيما كان آخر ما قرأته عطيات هو رواية المولودة لنادية كامل، صديقة عمرها ورفيقتها في مشوار السينما التسجيلية "بالمناسبة طنط نادية كانت أكتر حد ملازم ماما عطيات من أول يوم في مرضها قبل أي حد ما يعرف لحد يوم رحيلها"، تروي أسماء.

17

كانت عطيات على تواصل دائم مع أجيال متعاقبة، تنصت لشباب في بداية الطريق، ترشدهم في معالجة أفلامهم التسجيلية، وتتحمس لنجاحاتهم، وفي كتابها الثالث "السينما الثالثة"، المنشور عام 2013، يتبيّن مدى انفتاح عطيات على مختلف الأفكار "ماما كانت عارفة إن السينما مبقتش حكر على حد، وإن أي حد معاه موبايل يقدر يعمل فيلم"، لم تظلّ عطيات أسيرة الماضي بل انفتحت في علاقاتها بشباب المخرجين، منهم من صاروا أصدقاء لها.

18

في مشوار عطيات كان هناك عدد من الآباء الروحيين، في الصدارة كان دكتور علي النويجي صديقها من دسوق وزميل المعتقل مع الأبنودي وأحد أسماء دونتها في مقدمة كتابها الأشهر "أيام لم تكن معه": "دكتور علي أثر كتير في شخصيتها وطول الوقت تجيب سيرته إنه كان مهتم بعمل أبحاث حتى لو مش هتتنشر، هو عارف إن هييجي وقت والناس هتستفيد بيها"، تلك الخِصلة التي ظلّت مع تلميذته –عطيات- طيلة حياتها، 27 فيلمًا تسجيليًا ما زال الناس ينتفعون بها حتى الآن.

2018_11_14_19_39_47_378

ومن آبائها الروحيين أيضا كان دكتور مصطفى سويف، الذي كان سببا في تغيير ضفة حياتها غير مرة. عقب هزيمة 1967 تولى سويف مسؤولية معاهد الفنون العُليا (المسرح- السينما- الباليه- الموسيقى)، وقرر حينها أن يعيد هيكلتها فأسس ما يسمى "أكاديمية الفنون المصرية"، ليضم المعاهد في بوتقة واحدة ويضع شكلها الإداري الموجود حتى اليوم، وكان سويف ذا رؤية شاملة للمكان، جعل الدراسة بها عامين فقط وكذا وضع أسسًا لطريقة قبول الملتحقين، وهو ما تماشى مع عطيات "كان بيقول إن لازم اللي يدخل الأكاديمية يكون "مِخَلَّص" دراسة جامعية ويكون صاحب وعي عشان يخرج من عندنا يفيد بلده والفن.. مش مجرد أعداد بتدخل وتخرج من غير فايدة".

2018_11_14_19_39_51_50

سويف لم يكن أستاذها فحسب، بل كان معالجها النفسي أيضًا، في نقطة فاصلة لعب سويف دورًا مهمًا، حين انفصلت عطيات عن الأبنودي قررت أن تبتعد كثيرًا، فسكنت مدينة السويس، لم تصطحب أسماء معها "كانت شايفة إنها في مرحلة مش مستقرة وإن الأفضل ليا أقعد مع الأبنودي"، ظلت أسماء هناك لعام ونصف العام، في ذلك الوقت الذي كانت عطيات تجتر فيه آلام الانفصال، والخسارة الشخصية وعدم الاستقرار والتشوش بعلاقتها مع أسماء "قالها إنتِ عندك مقياس حاسم، إنتِ أمها ولا حاسة إنك مش أمها، عايزة تعاقبيها عشان عملت كذا باعتبارك أمها ولا لأ، دا الفاصل بين هي بنتك ولا مش بنتك"، منذ ذلك الوقت في بدايات التسعينيات حسمت عطيات قرارها، ستظل أسماء ابنتها طول العمر.

21

ماذا سيحدث إذا لم تكن عطيات في حياة أسماء؟ هذا سؤال لا توجد إجابة عنه، المؤكد أن ابنة يحيى الطاهر هي ابنة لعطيات أيضًا "ماما كانت صلتي بالعالم، وبكل اللي أنا فقدته كمان"، في كل القرارات الحياتية التي اتخذتها عطيات كان الهدف الأول هو حماية أسماء "كانت حريصة طول الوقت تعوضني عن كل اللي فُقد مني"، هناك خسارتان كبيرتان في حياة أسماء هما؛ رحيل والدها الحقيقي –يحيى الطاهر عبدالله- ثُم الأبنودي الذي اعتبرته أبًا ثانيًا لها "أنا فضلت عايشة معاه من وأنا عندي خمس سنين لحد لما بقى عندي 11 سنة، وقعدت فترة معاه لحد جوازته الثانية -من نهال كمال- وقتها ماما عطيات جت خدتني عشان حست إني مكنتش مرتاحة"، مع فقدان الأبنودي أيضًا تزعزعت ثقة الفتاة الصغيرة، وقتها جاءت هالة الابنة الثانية ليحيى الطاهر وعاشت مع أسماء في بيت السويس "هالة كانت بتجيني في الأجازات، فلما ماما حست إني بتبسط معاها وبلاقي حد أتكلم معاه، قالتلي تحبي هالة تعيش معانا على طول؟".

22

حينما فقدت أسماء أباها يحيى طمأنتها عائلة الأم أنه سيعود، ظلّت الفتاة الصغيرة مُنتظرة إياه، حتى جاءت عطيات فأخبرتها أن والدها لن يعود بهيئته البشرية مرة أخرى "كانت بتأهلني استوعب الموت، بتقولي هو هيرجع بس بشكل تاني".

في كل قرار اتخذته عطيات لم تعرف الندم، تدرك طيلة حياتها أن لها هدفًا لا تحيد عنه، فلم تفكر يومًا في خوض تجارب السينما الروائية تقول: "أنا في التسجيلي رقم واحد وروحي فيها.. ليه أروح لملعب تاني"، ولم تتذمر لوهلة من انحسار السينما التسجيلية في جمهور صغير، لذا كانت تعبر عن ذلك بقلب واع "ده هيفضل في تاريخ السينما بعدين، وهتيجي أجيال هيكون الشغل ده وثيقة ليها عن مصر في زمن ما.. اللي بعمله حقيقي والحقيقي هيعيش".

23

لم تعرف عطيات أيضًا معنى القطيعة، أن تتعامل مع مرحلة من حياتها وكأنها لم تكن، وهو ما فعله الأبنودي بعد الانفصال "وقتها هو قطع كل علاقة بتربطه بينا كأننا مكناش في يوم موجودين"، السبب في ذلك كما تقول عطيات لأسماء "هو زعل إني معملتش معركة للتمسك"، ثم تضحك مُكملة "زعل إني سبته يسيبنا"، لا تعرف أسماء سببا بعينه أدى للانفصال؛ لكنها تحلل "العلاقة كانت على جمر بين اتنين مبدعين، وشخصيتهم قوية والعند في طبعهم"، لم تتعامل عطيات بنفس منطق الأبنودي، ما زالت تحتفظ بدواوين أشعاره الباقية داخل مكتبة منزل المقطم، وكذا تحمل بين أوراقها تفاصيل تخص أحلامه كاستكمال دراسة الماجيستير التي تقدم لها في عام 1980 بكلية الآداب جامعة القاهرة، قسم اللغة العربية. كما دفعها حسّها التوثيقي لنشر كتابها الأول "أيام لم تكن معه"، في أواخر التسعينيات، والذي تحكي فيه عطيات عن فترة اعتقال الأبنودي وكيف كانت حياتها في ذلك الوقت.

24

ذلك التصالح والاتساق مع الذات لم يكن داخليًا فقط، بل ظهر على هيئة عطيات الخارجية أيضًا، فبمرور الوقت كانت شخصية المخرجة التسجيلية تكتمل أكثر فأكثر، هي التي تنتشر لها صور عديدة مُرتدية جلابيب ملونة، حتى أصبحت جزءًا من تكوينها، تلك الأردية التي ما زالوا مستقرين داخل دولابها الشخصي في منزل المقطم، تحكي أسماء عن تعرّفها بصديقة فنانة هي شهيرة محرز التي كان لديها مشروع جلابيب وأعجبت به "ومع الوقت بقى ستايل خاص بيها، الصبح وبالليل وفي المناسبات"، وكان لدى عطيات خياطة تذهب إليها في كرداسة تُشير إليها بما تريد.

25

تلك الصورة المميزة التي خلقتها عطيات لنفسها، هي الصورة التي نُحب أن نتذكرها بها، وفي عالم آخر لا بد أنها ما زالت تُمارس طقوسها اليومية، تستيقظ مُبكرًا، تقرأ الجريدة ثُم تفتح جهاز الكومبيوتر لتلعب "سوليتير"، تفطر وتقرأ قليلًا، بعدها تعود لفتح واحد من مشروعات أفلامها التي لا تنتهي، يُمكن أن تُشغّل في الخلفية أغنيتها الأثيرة "أمانة عليك يا ليل طوّل"، أو إذا أحبّت أن تسترجع الذكريات تُشغّل "بره الشبابيك" لمنير، لتستعيد أيام الانفصال بالأبنودي الذي كتب كلمات تلك الأغنية خصيصًا لها، وكما أيقنت أسماء أن للموتى طُرقهم الخاصة التي يعودون بها، تحلم بأن تلتقي بعطيات الأبنودي كما عهدتها؛ نبيلة، مخلصة، ودودة، حكاءة مبهرة وقريبة من الناس، ولو كان ذلك في عالم آخر.

26

فيديو قد يعجبك: