إعلان

مصراوي يتتبع حال أبناء "جزيرة الإنسانية".. أين ذهب "عيال بلادي"؟(تحقيق)

09:20 م الثلاثاء 14 يونيو 2016

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد ودعاء الفولي:

في ركن قصيّ بمحكمة عابدين، جلس "أسامة". طال انتظاره لانتهاء التحقيق مع محمد حسانين وزوجته آية حجازي، مؤسسا جمعية "بلادي". ثمة مشاعر اختلجت بصدر الطفل البالغ حينها 13 عامًا، نازعته ذكرى المكان الذي أواه لشهور بعد أن اتخذ الشارع بديلا عن منزله، افتقاده لزملائه، اللعب والتعلم، ثم عودة الأحوال إلى أسوأها بإغلاق المؤسسة والقبض على من فيها. دارت الأفكار برأس الصبي، ليمسك بما في حوزته من قلم رصاص وورقة صغيرة ويبدأ في الرسم؛ ثلاثة قلوب، لها أيدي تُمسك ببعضها البعض، وجهها باسم، أسفلها كتب "آية ومحمد وأسامة". احتفظ الصبي بالورقة، كما احتفظ بحكايته مع مؤسسة "بلادي"، حال 17 طفلا آخرين تواجدوا بالجمعية قبل إغلاقها، تبدلت بهم الأحوال، تاهوا منذ إغلاق "بلادي" واحتجاز القائمين عليها، فلم يعد لمعظمهم أثر إلا من تأكد عودته للشارع مرة أخرى.

____-1

من الجمعية إلى خارجها، حاول مصراوي تتبع حال أطفال "بلادي"، التقى بعض متطوعي الجمعية، تواصل مع أحد أهالي الصغار، تحدث لبعض الذين تعاملوا مع الأطفال عن مدى تغيرهم خلال أشهر قليلة مكثوا فيها بين جدران الجمعية، وكيف دارت حياتهم رأسًا على عقب فيما بعد حتى عاد معظمهم مرة أخرى للشارع.

نهاية المؤسسة

قبل عامين خرجت الأنباء بعناوين رئيسية تُخبر بالقبض على "أكبر شبكة لاستغلال أطفال الشوارع في المظاهرات"، وزاد عليها البعض بالاعتداء جنسيا على 18 طفلا عثرت عليهم قوات الأمن بمقر الجمعية الواقع بمنطقة التحرير وقت "مداهمة" المكان حسب قول محضر الضبط، إذ انتقلت قوة أمنية من مباحث قسم عابدين ومباحث رعاية الأحداث برئاسة العميد خالد عبد العزيز. فيما جاء حديث المتهمين، ومَن تعاملوا مع المؤسسة طيلة هذا الوقت أنها جمعية أهلية تحت الإشهار، اتخذوا لها شعار يد تُشير بأصابع ثلاث، رمزًا إلى "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية". لها مشاريع خدمية منذ عام 2013 حيث أنشأت، منها مبادرة عن النظافة وضد التحرش، ثم قرروا تنفيذ مشروع لإعادة تأهيل ودمج أطفال الشوارع واستهلوا به مطلع عام 2014 تحت اسم "أولاد شوارعنا".

____ 2

بعد انتصاف ليل 31 إبريل 2014 وحلول مطلع شهر مايو اتصلت آية حجازي بـمحمد كشك، أكبر متطوعي الجمعية عمرا، أخبرته بهجوم شخص ادعى أن ابنه لديهم، وأخذ يعيث بالمكان بحثا لكن لم يجد شيئا، وأن "حسانين" ذهب لعمل محضر، لكن بعد نحو عشر دقائق، جاءت قوة من المباحث بزي مدني، لتقلب المكان رأسا على عقب، وتصطحب معها "حسانين" و"آية"، وشريف طلعت -متطوع في المرحلة الجامعية يهوى الرسم- وبينما تصعد على السلم أميرة فرج المتطوعة القادمة من الإسكندرية، ووجدت مشهد نزول رفاقها والأطفال، وبإخبار الضابط المصاحب للقوة أنها صديقة لأفراد "بلادي" سيقت هي الأخرى إلى قسم شرطة الأزبكية رغم أن القوة المباحث كانت من عابدين.

حين وصل "حسانين" لقسم الشرطة لعمل المحضر، وجد الرجل الذي ادعى وجود ابنه بالمؤسسة هو مَن يقوم بعمل محضر مضاد، ذلك الرجل الذي لم يُرَ من حينها، مما أدخل الشك إلى نفس المقربين من المؤسسة، أن الأمر كان مُعد سلفا بالتعاون مع الأمن، وهو ما اتفقت عليه رواية جميع مَن قابلهم "مصراوي" وتربطهم صلة قريبة أو بعيدة من المتهمين، حتى أن أحد المصادر جزم بأن الصحيفة الجنائية لهذا الشخص القادم من منطقة أبو حشيش تحمل صفة "مسجل خطر وعليه أحكام".


في 24 مارس 2014 ظهر بعض أطفال المؤسسة ببرنامج ست الحسن على قناة أون تي في، تحدث كل من "مازن" و"أحمد" و"صلاح" عن حياتهم قبل الانضمام للمؤسسة، وكيف وصلوا لـ"بلادي" فقال الأول إنه هرب من دمياط إلى القاهرة بسبب ضرب والده له، وترك "أحمد" والدته لإصرارها على تركه العمل في إحدى الورش لينتقل لأخرى "كانوا بيضربوني فيها وبيهنوني" حسبما يحكي، أما "صلاح" كان يحب التعليم فيما كانت تريد له والدته العمل في ورشة وترك المدرسة.


سرد الأولاد البالغ أصغرهم 13 عاما حينها، تفاصيل عن حياة الشارع وما طرأ عليهم من تغيير بالمؤسسة، فتحدثوا عن شربهم للسجائر والخمر، وتعاطيهم المخدرات، فيما انقطعوا عن ذلك منذ دلفوا "بلادي"، فيقول "مازن" إنه منذ 15 يوم قبل تاريخ حديثه لم يضع أي شيء في فمه.

تأسيس جماعة إجرامية لأغراض الاتجار بالبشر بقصد استغلالهم جنسيا والمشاركة في التظاهرات وجمع التبرعات، هتك عرض أطفال وإجبارهم على ممارسة الفجور، احتجاز أطفال بدون أمر أحد الحكام المختصين، إنشاء كيان تحت مسمى "جمعية بلادي" يقوم بأنشطة الجمعيات دون اتباع الأحكام المقررة قانونا.. سبعة اتهامات وجهتها النيابة العامة لثمانية أشخاص من القائمين على "بلادي"، في القضية الحاملة لرقم 4252 سنة 2014 جنايات عابدين، والتي تم تحويلها إلى محكمة الجنايات المختصة بدائرة محكمة استئناف القاهرة في سبتمبر 2014.

الحياة داخل "بلادي"

ورقة صغيرة تحمل اسم "بلادي" ورقم هاتف "حسانين" دون اسمه، يعطيها أفراد المؤسسة، لطفل أقل من 18 عاما يجدوه أثناء جولتهم، يتركونها له، بعد الحديث معه عن مخاطر التواجد بالشارع، وحاجاته للتعلم واللعب بدلا من التعرض للأذى، ثم يغادر المتطوع، ويترك الطفل ومعه تلك الورقة، فإن شاء اتصل بالهاتف، ووصف له المكان، أو قرر في ساعتها مصاحبة أفراد "بلادي". كذلك يحكي "كشك"، عن تعامل المؤسسة في الوصول للأولاد.

مع كل طفل جديد، كان يعلن "حسانين" ذلك على صفحة المؤسسة بفيسبوك مع صورة للطفل. أنشطة المؤسسة ظلت مُعلنة على موقع التواصل الاجتماعي حتى القبض عليهم؛ فتارة ينشر "حسانين" صورة للأطفال يتناولون إفطارهم المُكون من فاكهة فقط، أو صورا لهم فيما يحضرون ورشة لتعليم الموسيقى، أو ورشة لتعلم تدوير المخلفات، فيما حمل المنشور الأخير بتاريخ 1 مايو 2014 تلك الكلمات "بكره الساعة 3 في انتظاركم في مؤسسة بلادي في مهرجان ألوان نفرح ونلعب ونتبسط مع بعض".

____-3 

بالطابق السادس بالعقار رقم 31 في شارع محمد محمود، وسط البلد، كانت مستقر خطى "أسامة" وغيره من الأولاد، بين أربع غرفات وصالة يتنقل الصبية، في الحجرة الكبرى كانوا يجتمعون أغلب الوقت، يلتقون بمن تطوعوا لتعليمهم القراءة والكتابة وغيرها من الأنشطة، إذ يتوافر سبورة، وكراسات رسم. وبالجهة المقابلة منها مائدة يتشاركون عليها الطعام، الذي أحيانا ما يشاركون بإعداده، وبها التقط "حسانين" صورة له مع اثنين من الأولاد حين تبرع لهم أحدهم بصندوقين فاكهة، فقرروا أن تكون إفطارهم، وتوزيع ما تبقى على المحتاجين. وبالحجرة الثانية تليفزيون معلق، كثيرا ما يتنافسوا أمامه على ألعاب الفيديو. يبقى حجرتين بالنهار هي للأطفال أيضا، وبالليل تُفرش بها مراتب النوم، إحداها للصبية وأخرى لمن ينام من القائمين على المؤسسة، فتسكنها "آية" إن قررت البقاء، وأحيانا قليلة تشاركها "أميرة"، وكان لابد من استمرار أحدهم مستيقظا لمراقبة الأولاد كما يقول "كشك".

"إيه العائد أني أحسّن سلوك ولد من الشارع واعلمه وبعدين أوديه لأهله؟" سؤال ظل يراود "كشك" منذ معرفته بالمؤسسة، قبل أن يتحدث "حسانين" عن رغبته في احتواء هؤلاء الصغار وإعادتهم لأسرهم، رغم ذلك لم ينقطع الشك عن "كشك" بادئ الأمر في استغلال الأطفال "يلموا على الولاد فلوس"، ظل يفكر في كل شيء سلبي، وينتظر رؤية ما يثبت العكس. مع الوقت صار "كشك" يذهب للمؤسسة بشكل يومي، حضر ورشة تدريبية قدمتها "بلادي" للمتطوعين لكيفية التعامل النفسي مع الأطفال، أضحى يعرف أسلوب التعامل، وتشكلت خلفية الرجل عن المكان الخدمي.

____ 4

من داخل السجن كتب "حسانين" بضع ورقات حصل عليها مصراوي، شرح فيها أهداف مؤسسة "بلادي"، واصفًا إياها بـ"جزيرة الإنسانية"، والتي لا يتضمن نشاطها فقط مساعدة أطفال الشوارع، فشرح رسالتهم قائلًا: "مهمتنا أن نستثمر موارد مصر البشرية، ونمكنهم من استغلال مواردها الأخرى، من خلال عملنا نسعى لتحقيق الاندماج المجتمعي حتى يحتوي وينهض بالفئات المهمشة والمستضعفة ويخرج منهم قادة قادرين على دفع مصر للأمام".

إمكانيات بسيطة شاهدها محمد عبد العزيز سائق المؤسسة كما يُعرف نفسه، وذلك حين استكشف المكان للمرة الأولى. مطبخ بلا ثلاجة، ومقاعد حديدية، وأخرى جلدية وثيرة جيد الحال، وحمام به غسالة صغيرة. عرف الشاب العشريني صدفة، حين استوقفه "حسانين" من ميدان التحرير كي يقله والأطفال إلى مركز شباب بمنطقة العمرانية، حيث يقام حفل تشارك به عدد من الجمعيات الخاصة بالأطفال، كان الأمر بالنسبة لـ"عبد العزيز" في البداية مجرد "توصيلة"، لكن بمرور الوقت، لم يعد ذهابه إلى "بلادي" مرتبط بجولاتهم الخارجية.

حين ارتدى "أولاد شوارعنا" ثوب جديد

كلما كان لدي "عبد العزيز" وقت فراغ، يتوجه للمؤسسة دون اتفاق مسبق. كان يبصر العديد من المتطوعين، مثل تلك الفتاة التي تأتي لتعليمهم الرسم، ويسأل الصغار عن كيفية نومهم، ومعاملتهم "سألتهم في حد بيضربكم؟"، فنفوا له، وأخبروه عن يومهم، الذي يبدأ بالاستيقاظ، ثم التفكير بالإفطار، كما يساعدون في تهيئة المكان من تنظيفه، وترتيب أماكن نومهم، ليواصلوا الحصص التعليمية، واللعب وبقية الأنشطة.

____ 6

روايات مختلفة، تؤكد علانية أنشطة "بلادي"، بما فيها التبرعات الواردة للمكان، ومرور آل الجمعية بمواقف كانوا فيها تحت أنظار أشخاص يعرفون الأطفال من قريب أو بعيد، إذ يروي سائق المؤسسة عن رحلة مجمع الأديان بمنطقة مصر القديمة، حيث عبر على كمين الشرطة المتواجد قبل الدلوف إلى شارع الكنائس الأثرية، وما أن ترجل الجميع عن الميكروباص، حتى ركض أحد الأطفال نحو أمين شرطة، مسلما عليه بترحاب، قبل أن يتوجه أمين الشرطة لـ"حسانين" يخبره أنه يعرف ذلك الطفل وأهله محدودي الحال، وهو ما يدفعه للهروب "وقال له خليه معاك أحسن" كما يقول السائق الشاهد على الموقف، الذي صار مجال مزاح بين الصغير ونظرائه حينها لمعرفته بالأمن.


الاختطاف بالتحايل والإكراه كان أحد الاتهامات التي أدرجتها النيابة في قضية المؤسسة، غير أن السائق "عبد العزيز" لم يشاهد بعينيه أي من هذا، بل أبصر اختلاف في تصرفات الصبية.

ووفق أكثر من شهادة، ثمة تغيرات طرأت على الأطفال المقيمين في "بلادي"، حتى أن البعض عاد لأهله، حال "صلاح" و"مازن". وتقول والدة "أسامة" إنه لم يكن يستطيع القراءة والكتابة رغم تركه للمدرسة بالمرحلة الابتدائية "كان متعقد من مدرس العربي عشان كان بيزعق له"، لكنه صار متمكنا من القراءة والكتابة خلال أسابيع في المؤسسة، فضلا عن أنه أصبح أكثر هدوءً واستماعا، بعد أن كان عدائيا.

____ 7

ذلك التغير لمسه أيضا سائق المؤسسة، إذ كان وصفه للأولاد حين رؤيتهم للمرة الأولى "أطفال شارع بمعنى الكلمة". وكذلك طبيبة الامتياز بقصر العيني -تحفظت على ذكر اسمها- التي كانت بين المتطوعين، فخلال زيارتها المتفاوتة للمؤسسة رصدت أن "العنف قل كتير وطريقتهم في التعامل مع بعض اختلفت"، حتى أحلامهم بدأت تتفتح مرة أخرى، ففي إحدى المرات طلب منها ولد نظاراتها ليرتديها "ولما لبسها وشاف شكله قاللي أنا عايز أطلع دكتور". ولا زالت الطبيبة تحتفظ بهدية أحد الأطفال يدعى أحمد أراجوز "جابلي عروسة على شكل سمكة نيمو عشان عارف أني بحبها"، غير متناسية شهامته وقت ذهابهما لقصر العيني لمتابعة علاج قدمه المريضة حين كان يترك مقعده بمترو الأنفاق بمجرد رؤيته لسيدة عجوز.


تعرفت الطبيبة المتطوعة على المؤسسة في فبراير 2014، عن طريق إحدى محاضراتهم عن أطفال الشارع، لتنتظم في التردد على المقر بعدها بأسبوعين، لم تكتف خلالها بتدريس الأولاد اللغة العربية، والإنجليزية والحساب، بل تكفلت بمعاونة "أراجوز"، الذي جاء للمؤسسة مصابا بجرح غائر بقدمه، زادت إقامته بالشارع من صعوبة علاجه سريعا "كانت فلوس العلاج بسيطة بس الجرح كان بدأ يتلوث ويبقى خطر". كان الصغير ذو الأربعة عشر عاما يعرج في مشيه، فاصطحبته الطبيبة العشرينية إلى مستشفى قصر العيني لتتابع معه العلاج، وعقب أسبوع عادت لـ"أراجوز" حركته الطبيعية.

علاج الأطفال الوافدين للمؤسسة كان من الأولويات؛ يتذكر "كشك" أيضا "صلاح" ابن الـ14 عاما، ذو الملامح الهادئة والشعر الأملس "كان شكله ابن ناس" كما يصف، والذي حين جاء للمؤسسة كان يعاني مرض جلدي، فتم عرضه على طبيب، ليتعافى بعد المدامة على الدواء. وكذلك "خالد"، مَن لاحظ "حسانين" معاناته بالرؤية أثناء اللعب مع أقرانه، ليخبر أخصائي البصريات المتطوع أن يساعده، فإذا به يعاني من "استيجماتيزم"، وتكفل "كشك" بعمل نظارة طبية اختارها الصبي بنفسه.

____ 8

وفي 28 مارس 2014 كتب "حسانين" على صفحته الشخصية بـفيسبوك أن "4 من أولاد مؤسسة بلادي ينطلقوا لإجراء عملية تجميل لتشوهات في جسدهم"، مطالبا أصدقاءه بالدعاء لهم، فيما ذكر أكثر من مصدر لـ"مصراوي" قصة الولد الذي دخل إحدى مراحل إدمان المخدرات؛ فاستطاع "حسانين" بحيلة أن يعافيه "قاله عايز مخدرات هديك بس متاخدوش من ورايا وكان بيديله قرص اسبرين ويفهمه أنه مخدر" حتى مرت فترة إخراج المخدر من جسد الصبي وأصبح متعافيا كما يقول "كشك"، مَن يصف مؤسس "بلادي" أنه كان لديه إحساس عالي باحتياجات الأطفال.

رحلة البحث عن الأطفال

استعادت والدة "أسامة" ذكرياتها مع أصحاب المؤسسة، حين اتصل بها "حسانين" بعد أسابيع من غياب الابن دون معرفتها لمكانه، ليعلمها أن "أسامة" بحوزة المؤسسة مطالبا لها بزيارته وقتما أرادت. كان ذلك قبل نحو شهر من واقعة إغلاق "بلادي" والقبض على من فيها حتى الأطفال، غير أن استحضارها لهذا الموقف ونفي ابنها لها ما يتردد عن العنف هو ما جعلها تستميت في الوقوف بجوار القائمين على المؤسسة، مغيرة موقفها السريع حين علمت من وسائل الإعلام أن الشرطة داهمت مقر المؤسسة، فهرولت إلى قسم الأزبكية، وبمجرد رؤيتها لـ"حسانين" وأية" هناك: "شتمتهم لأني كنت فاكرة إنهم عملوا حاجة في العيال".

حاول بعض المقربين من أصحاب المؤسسة البحث عن الأطفال لسماع الحقيقة منهم، خاصة أنه كان قد نشر فيديوهات مصورة لهم يتحدثون بها عن تلقيهم أموال من الجمعية نظير المشاركة في المظاهرات وغيرها من اتهامات النيابة، لكن المصير كان الحبس برفقة القائمين على "بلادي"، فبعد ثلاثة أشهر من إغلاق المؤسسة والقبض على مَن فيها، في أغسطس 2014 انضم ثلاثة أخرين للقضية، إذ قرر محمد السيد صديق "حسانين" وجاره الذهاب لولدين كانا بالجمعية رآهم في شارع محمد محمود.

توجه "السيد" إلى الفتية بصحبة صديقه كريم مجدي، الذي نفت جميع المصادر لـ"مصراوي" وجود أي معرفة أو علاقة له بالمؤسسة، ومعهم كان إبراهيم عبد ربه الصالحي، أحد المتطوعين بالمؤسسة، والمعروف باسم "أشهد". وبعد أن تحدثوا للولدين، الذي يدعى أحدهم "مصطفى" والآخر "تيتو" وسجلوا أقوالهم. جرت محاولة للحوار مع والد الأخير الذي رفض أن تكون له علاقة بالقضية، وحين علم بحديثهم لابنه، اتصل بالضابط المسئول عن القضية، فأخبره أن يتقدم بمحضر ضدهم، وتم توجيه تهمة استعمال القوة والتهديد ومحاولة رشوة طفل من المجني عليهم لتعديل أقواله، والقبض عليهم وحبسهم بسجن طرة مع "حسانين" و"شريف".

____ 9

لم تكن فقط محاولة البحث عن الأولاد طريق محفوف بالخطر، خاصة خلال الفترة الأولى من القضية، بل مجرد الاطمئنان عليهم، كما حدث مع زينب رمضان إحدى المتطوعات، التي طلبت من والدة "أسامة" أن تذهب معها لزيارة الأولاد وقت احتجازهم بالمؤسسة العقابية، فاضطرت الأم أن تُخبر مسئول الأمن أنها قريبتها، حتى تتمكن من الدخول غير من المصرح به إلا للأقارب. اطمأنت زينب على الصبية، ثم أعطت ورقة صغيرة بها رقم هاتفها لـ"أسامة" للاتصال بها في حاجة إن احتاجوا شيئا.

لكن ما لبثت أن تحركت والدة "أسامة" و"زينب" للرحيل، باغتهم رجال أمن المؤسسة العقابية ليسحبوهما إلى الداخل مرة أخرى، إذ لاحظ أحد العاملين تلك الورقة بيد "أسامة"، فكشف أمرها أنها من "بلادي" وليست قريبته، لتنهال الشتائم على السيدة الثلاثينية والفتاة "قالولي انتي جايبالنا واحدة من المؤسسة اللي بتعمل وتسوي في العيال"، تم احتجازهما بقسم السلام حتى المساء، واُفرج عن والدة "أسامة"، وتم ترحيل "زينب" على سجن القناطر، لتحصل على إخلاء سبيل على ذمة القضية عقب ذلك بأسبوع.

ورغم قسوة الموقف على الأم، لكن استعادة السيدة لتصرف "أسامة" حينها، جعلها تشعر أنه لم تخطئ بإيمانها في صدق المنتمين لهذا المكان فيما فعلوه لابنها "لما حاولوا ياخدوا منه الورقة اللي اديتها له زينب بلعها عشان محدش يعرف عنها حاجة".

ومنذ وقائع الاحتجاز هذه، وبات كل مَن تعامل مع المؤسسة في حذر من أمره، لكن "كشك" بحكم عمله يشاهد بعض الأطفال ممن كانوا في الجمعية؛ فـ"مصطفى" يقبع قريبا من محكمة عابدين "لما بشوفه بسلم عليه بس وامشي". قبل نحو ثلاثة أسابيع كانت المرة الأخيرة التي التقاه فيها "قاللي ساعتها إنه بقى قاعد في الحتة دي". لم يتتبع "كشك" أي من أطفال الجمعية، خوفا على أمانه الشخصي، لاسيما وأن أوراق القضية لازالت مفتوحة، غير أن الأقدار ألقت أمامه بـ"صلاح" الذي كان من أبناء الجمعية وعاد مرة أخرى إلى الشارع "عرفت إنه في رمسيس".

"بلادي" تحت النظر

رغم مرور عامين إلا أنه حتى الآن لم تستمع المحكمة لأي من الشهود، الذين يقعوا جميعا بخانة "الإثبات"، رغم رغبة البعض في إدراجهم بشهود النفي. وبالسابق أرادت والدة "أسامة" الإدلاء بشهادتها غير أن النيابة رفضت، كما رفضوا الاستماع لـ"أسامة" حسب قولها، وحاولت الأم إقناع أهالي آخرين بالشهادة لكن بعضهم لم يولِ الأمر اهتماما، رغم إخبار أحد الأطفال لها أن شهادته التي أدانت "محمد وآية" كانت خوفا من البطش به حين عودته للشارع مرة أخرى قائلا بالنص وفقا لها "مكنتش عايز أتضرب زي الكبار اللي فينا ما اتضربوا".

ثلاثة شهور قضاها أطفال "بلادي" بمقر المؤسسة العقابية، للتحقيقات والانتهاء من الكشف الطبي عليهم. في تلك الأثناء لم تفوت الوالدة أي فرصة لزيارة "حسانين وآية"، لم تعلم الكثير من التفاصيل عمّا حدث ليلة القبض أو الأيام التي تلتها، حتى روى لها الابن أن "حسانين" تعرض للضرب داخل النيابة أمامه والأطفال الآخرين، فحاول "أسامة" الدفاع عنه دون جدوى، كما تعرض بعض الصغار للضغط والتهديد مقابل إدانة صاحب المؤسسة عن طريق تصوير شهاداتهم ونشرها إعلاميا، وهو ما رضخ له الجميع عدا أربعة أولاد بينهم "أسامة".

بين الاعترافات التي قالها أطفال الجمعية، هو تكليفهم من قبل "حسانين" بإلقاء الحجارة على أفراد الأمن أمام قصر الاتحادية، يوم 24 إبريل 2014، الذي وافق اعتصام نظمته زوجة الناشط المحبوس أحمد دومة، للمطالبه بالإفراج عنه وغيره من المعتقلين. وقال أحد الأولاد من داخل مقر النيابة في مقطع مُسجل نقلته إحدى الصحف الخاصة "أنا رميت طوب على العساكر عشان محمد إداني خمسين جنيه وقاللي احنا محتاجين عدد كبير.. معرفش صبت كام عسكري"، إلا أنه مع البحث تبين عدم وجود أي اشتباكات بذلك اليوم بين العساكر والمتظاهرين.

____ 10

"الواحد كان يتقبض عليه بتهمة أنه بتاع ثورة ودي كانت شرف لكن يتقبض عليه أنه بتاع عيال صعبة دي شوية" كان ذلك تعليق "حسانين" بعد أن تم احتجازه لأول مرة في محطة مصر، بينما هو في إحدى الجولات التفقدية للأطفال، في مارس 2014، حينها استوقفه شرطي، ليخبره الشاب عما يفعل "قال له لو لقيت ولاد اتصل عليا" يحكي "كشك" مبتسما، وما أن تقدم "حسانين" خطوات خارج المكان، حتى عاد عقب اتصال الشرطي مخبرا إياه أن هناك طفلين يريده أن يأخذهما، ليتم احتجازه لساعات.

سبق موقف محطة مصر، واقعة أخرى شبيه بما حدث يوم القبض على آل الجمعية، تسببت بها الورقة الصغيرة، المتضمنة لعنوان وتليفون "حسانين"، حين ذهب بها صبي لأهل قريبه الذي توجه للمؤسسة، وأراد أن ينضم إليه بدلا من الشارع، لكن معرفة الأهل بذلك، دفعهم إلى قسم قصر النيل، الذي قام بعمل "كمين" كما يسميه "كشك" الشاهد على تلك الواقعة المنقضية قبل 3 أشهر من إغلاق "بلادي".

بينما كان يجلس "حسانين" و"كشك" يتناولان عشاء أحضره الأخير، لاحظ المتطوع الأربعيني توالي رنين هاتف "حسانين" فيما تجاوزت الساعة منتصف الليل، وبمعرفته أن السبب طفل يريد القدوم، ويلح على "حسانين" للقائه بأول الشارع. ورغم محاولات القائم على "بلادي" بوصف المكان أو أقرب نقطة له، لم يرض الصبي إلا أن ينزل "حسانين"، الذي لم يرد أن يترك المؤسسة خالية قبل مجيء "كشك"، لكن الأخير لم يستشعر خيرا بالأمر، فتطوع لجلب ذلك الطفل.

من رصيف الجامعة الأمريكية، لمح "كشك" الصبي على الرصيف المقابل وبجواره اثنين هيئتهم كرجال المباحث، وآخرين مكان فرشة جرائد شهيرة بمحمد محمود، وآخر عند الميدان، حينها تأكدت ريبة الرجل، لكن "حسانين" أبى التصديق حتى بعد اتصاله بالطفل، وإعلام "كشك" له أنه رأي فرد الأمن يعطي الهاتف له وكان رده "أوعي تسيب الولد يمكن في مشكلة وهو مش عارف ييجي".

وكي يؤكد "كشك" خطأ حسن نية "حسانين"، ذهب لأفراد الأمن، وبمجرد معرفتهم أنه تابع لـ"بلادي"، اصطحبوه إلى قسم قصر النيل، هناك قابل رجل وسيدة اتهما المؤسسة بخطف ابنهما، وأنهم تابعين لجماعة الإخوان، وبعد تأكد المتطوع من وجود الصبي بالمؤسسة؛ تولى مفاوضات تسليم الطفل لأسرته، رغم عدم رغبته العودة لأسرته، وصراخه فيهم أنهم السبب في هروبه لكثرة ضربهم له، وتم إغلاق المحضر بكونه مشاجرة حدث التصالح بها، لينتهي الموقف بتعهد مدير مباحث قصر النيل وليد العراقي بالذهاب إلى المؤسسة ورؤيتها، وهو ما حدث، كما يقول "كشك".

____ 11

ومن قبل كتب "حسانين" على صفحته الشخصية بلهجة مازحة، أن أحد ضباط قسم قصر النيل جاء إلى المؤسسة، بعد أن تتبع "آية" خلال إحدى الجولات التفقدية للأطفال في ميدان التحرير قائلا "بدل ما آية تيجي في إيديها ولد جت بظابط"، لكنه أكد على حسن تعامل الشرطي، وتقبله للفكرة بل "والدعاء لهم"، وهو ما يعبر عن أن الجهاز الأمني كان على معرفة مسبقة بنشاط الجمعية.

العودة لنقطة الصفر

مرّ عامان على المرة الأخيرة التي وطئت فيها قدم "أسامة" المؤسسة. تغير الفتى البالغ خمسة عشر عاما كثيرا، كما تحكي الأم "بقى منطوي أكتر.. عدواني مش عايز يعمل حاجة لا يتعلم ولا يشتغل"، يقضي وقته حاليا في التنقل بين صفحة المؤسسة على فيسبوك، أو التواصل مع أحد المتطوعين. لم تتوقف مساعي الوالدة لتغيير حاله للأفضل، مذكرة إياه برغبة "آية" و"حسانين" في أن يكون أفضل، إلا أن لسان حاله دائم التهديد بالعودة للشارع، وتدمير نفسه كما دُمّرت المؤسسة التي اعتبرها بيته فيما قبل.

كان "أسامة" من الأطفال المقربين لأصحاب المؤسسة، حتى أنه قام بزيارة واحدة إلى "آية" بسجن القناطر. وبمجرد أن تبادل النظرات معها، دخلا في نوبة بكاء لم يوقفها سوى طلب الشابة بعودة ابن الخامسة عشر عاما إلى المدرسة حسب قول والدته، لكنه رفض، وإلى الآن يخبر أمه "أنا مش هدخل مدرسة طول ما آية ومحمد في السجن".

____ 12

في الحادي والعشرين من مايو الجاري، تسابقت نفوس أهل المحتجزين السبعة قبل أرجلهم، إلى قاعة محكمة عابدين، تجاوز حبسهم العامين، ولا زال التجديد هو المصير، يحملون بكل مرة أمل إخلاء السبيل. لحظات يظفروا بها من الأبناء، بعد ساعات انتظار. وخارج القاعات الممتلئ أرجائها بكلمات "العدل أساس الملك" استقبلوا خبر تجديد الحبس، وكان النبأ قد تداول سلفا قبل اكتمال حضور المتهمين. وفي غضون الثالثة عصرا جاء الخبر اليقين؛ تجديد حتى 19 نوفمبر القادم، فتعالت الصرخات، وانهارت القوى المتماسكة كذبا، فيما لم تحتمل قدما والدة "أميرة" السير لتوديع ابنتها، واكتفت بالتلويح لها، دون إدراك لقرار المحكمة، لتتخذ طريقها إلى مسجد السيدة نفيسة، وما أن استقرت بساحة المسجد حتى اتصلت بوالدة "آية" لتعلمها بما غاب عنها، فتغلق السيدة مريضة السرطان الهاتف قائلة "بتقول لي بقت قضية سياسية.. 6 شهور تأجيل تاني يا عالم مين يعيش".


بين اقتفاء أثر الأولاد، وعودة آخرين لمنازلهم أو للشارع، لازال الأمل يعبث بنفوس بعض متطوعي الجمعية لمعرفة طريق أبناء "جزيرة الإنسانية؛ حاولت طبيبة الامتياز البحث عنهم ومساعدتهم "معرفتش أوصل لحد". يطن عقلها بتساؤلات عن مصيرهم الآن، وماذا سيكون الحال لو استمروا تحت مظلة "بلادي". كان لكلٍ منهم موهبة "محمود كان بيلعب كورة حلو وحاولوا يضموه لنادي وملحقوش.. محمد كان بيمثل حلو"، حتى "اراجوز" الذي عالجته حصل على لقبه لأنه يُقلد ببراعة، غير أن أكثر ما أزعجها ذلك الطفل الذي جاء للجمعية متسربا من التعليم، لكنهم أقنعوه بالعودة للدراسة، وكان سيذهب-في الأسبوع التالي للقبض على آل المؤسسة-إلى دمياط حيث يقطن، ليؤدي امتحانات الصف الثالث الإعدادي "زمانه رجع الشارع تاني.. لا امتحانات بقى ولا يحزنون".

لمشاهدة أوراق تعريفية بمؤسسة "بلادي" وأنشطتها كتبها محمد حسانين من داخل السجن..اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: