أغلى ما ترك أبي.. حكاية بدلة صاعقة عائدة من أكتوبر 73 (صور ووثائق)
كتب : مصراوي
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
الإسكندرية - محمد البدري:
كل صباح، يقطع "عادل حمودة" الطريق من أطراف الإسكندرية إلى عمله في إحدى مدارس المدينة، حاملاً معه مسؤوليات يوم جديد، لكنه في قلبه يحمل إرثاً أثقل وأغلى بكثير؛ قصة بدلة عسكرية ممزقة، تركها له والده البطل "حمودة عبد اللطيف توتو".
قد تبدو رحلة الابن اليومية عادية، لكنها صدى لرحلة أخرى أعظم قطعها الأب قبل نصف قرن في صحراء سيناء. ففي بيت العائلة، لا تزال تلك البدلة، بثقوب رصاصها وبقع دمائها، شاهدة على يوم من أيام النصر، يوم نجا فيه الأب بمعجزة وشهد استشهاد رفيقه، ليترك لابنه كنزاً لا يقدر بثمن، ودرساً في البطولة يُروى للأجيال.
وثيقة بخط اليد.. سيرة بطل من زمن آخر
هذا الإرث العظيم ليس مجرد حكايات شفهية، بل هو موثق بورقة عتيقة كتبها البطل "حمودة توتو" بنفسه، وكأنه كان يعرف أن هذه السطور البسيطة ستصبح يوماً ما وثيقة تاريخية. بخط يده الواضح، دوّن مسيرته: "الاسم/ حمودة عبد اللطيف توتو... التجنيد بالجيش - 1970/4/15".
سطور قليلة تختصر رحلة شاقة؛ من الحصول على فرقة الصاعقة رقم 34، إلى فرقة المظلات التي قفز فيها 6 قفزات نهاراً وليلاً، وصولاً إلى اللحظة الحاسمة: "الاشتراك في حرب 6 أكتوبر المجيدة، وصولا إلى الهجوم على نقطة للعدو في الدفرسوار غرب القناة يوم 1973/10/17".
كنوز ما بعد المعركة.. حكاية البدلة والمصحف
في ذلك اليوم المشهود، أصيب "حمودة" في ذراعه الأيمن، ومن هنا تبدأ قصة الكنزين اللذين بقيا من المعركة.
يروي الابن "عادل" - وفقا لوثيقة البطل المكتوبة بخط يده -، أن والده نُقل إلى مستشفى حلمية الزيتون العسكري، وهناك، وبينما كان يتعافى من جراحه، زارته السيدة جيهان السادات ضمن جولتها على المصابين، وأهدته مصحفاً لا يزال لدى الأسرة حتى اليوم.
أما الكنز الآخر، البدلة الملطخة بالدماء، فكانت قصته مختلفة، يقول عادل: "لما أصيب ونقلوه للمستشفى، قلعوه البدلة وحطوها جنبه عشان ترجع للجيش، لكنه أصر ياخدها معاه"، أراد البطل نيل شرف الاحتفاظ بالبدلة، لتبقى إرثاً يروي فصلاً من أمجاد أكتوبر.
رفيق السلاح.. قصة شهيد في ذاكرة بطل
لكن أثقل ما حملته ذاكرة البطل، وأصدق ما ترويه ثقوب بدلته، لم يكن ألم إصابته، بل كان مشهد النهاية البطولية لأقرب رفاقه.
يستعرض الابن "عادل" صورة قديمة بالأبيض والأسود تجمع شابين من وحوش الصاعقة، ويقول: "اللي ع اليمين الشهيد البطل أحمد الطاهر، واللي ع الشمال والدي".
ويروي "عادل" الحكاية كما سمعها من والده مراراً: "أثناء المواجهات المباشرة مع العدو، أصيب والدي برصاصة مباشرة في ذراعه، فسحبه زملاؤه للخلف، تقدم منه الشهيد أحمد الطاهر، ربط له ذراعه النازف بيديه، وطمأنه بكلمات سريعة، ثم تركه وعاد ليكمل القتال"، لم تمر سوى دقائق قليلة، حتى سقطت قذيفة غادرة من العدو.
يكمل عادل بصوت يملؤه التأثر: "أصابته القذيفة ليستشهد على الفور هو وعدد من زملائه. تخيل، واحد لسه كان بينقذك وبيسعفك ويواسيك من دقيقة، يموت قدامك في ثانية"، لقد بقيت صورة "الطاهر" وهو يسقط شهيداً محفورة في ذاكرة "حمودة"، لتتحول بدلته المصابة إلى شاهد أبدي على تضحيته.
إرث لا يموت.. من جيل إلى جيل
نجا البطل حمودة عبد اللطيف توتو من نيران المعركة، وعاد بذراعه المصاب، وبدلته الممزقة، ومصحف السيدة جيهان، وبذاكرة مثقلة بصورة صديقه الشهيد. عاش حياته بطلاً في صمت، قبل أن توافيه المنية بهدوء في التاسع من سبتمبر عام 2024.
واليوم، بينما يقطع ابنه "عادل" رحلته اليومية من أطراف الإسكندرية إلى عمله، لا يحمل مجرد ذكريات، بل يحمل مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث الحي. فالبدلة العسكرية المعلقة في بيته ليست مجرد قطعة قماش قديمة، بل هي درس في الوطنية، وشاهد على النصر، ورمز للتضحية، وقصة بطل مصري أصيل لم تمت حكايته برحيله.