عين أصيل.. كيف كشفت الصدفة مدينة مفقودة فى الوادي الجديد؟
كتب : مصراوي
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
أعاد موقع عين أصيل الأثري في واحة الداخلة إلى الواجهة وجهًا مجهولًا من حضارة مصر القديمة؛ مدينة إدارية مزدهرة شُيّدت في أواخر الأسرة الخامسة وبدايات السادسة، ثم طواها الحريق والاندثار، قبل أن تُعيد عاصفة رملية في يناير 1947 كشف أطلالها للعيان.
على مسافة غير بعيدة من طريق الخارجة–بلاط، تقف المنطقة التي تُعرف اليوم بـ"عين أصيل " شاهدًا فريدًا على تخطيط مديني محكم وأنظمة إدارة متقدمة، جرى توثيقها على ألواح طينية وختم أبواب المخازن بطابع الحاكم، في ممارسة تُحاكي ما نراه في النظم البيروقراطية الحديثة.
نشأت عين أصيل بعيدًا عن النيل، ومع ذلك عكست مستوى معيشة وتنظيمًا إداريًا يوازي مدن الوادي الخصيبة، تؤكد الشواهد الأثرية أن المستوطنة قامت بين أواخر الأسرة الخامسة وبدايات السادسة، واستمر استغلالها خلال بدايات عصر الانتقال الأول، قبل أن تمر بمراحل سكنية متعاقبة.
هذا ما أكد الخبير الأثري بهجت أبو صديرة، مدير الآثار المصرية السابق بالوادي الجديد، لمصراوي، موضحا أنه تُظهر البقايا وجود قصر للحاكم المحلي ومساكن للموظفين والعمال، ومصانع للفخار وورش سباكة ومخابز، بما يشي باقتصاد نشط وقاعدة خدمية متكاملة.
قال بهجت، إن عين أصيل لم تكن نقطة حراسة عابرة في الصحراء، بل مركز حكم وإدارة متكامل، ارتبط بمؤسسات الدولة القديمة، واحتفظ بخصوصيته المعمارية والتنظيمية بعيدًا عن وادي النيل، كما أن المواد الطينية المختومة والألواح الهيراطيقية التي عُثر عليها قدّمت أقدم دليل مُثبت على صلة الواحات الإدارية بالوادي منذ الأسرة السادسة.
يُبرز التخطيط العام للموقع عبقرية هندسية نادرة: مساحة مستطيلة تُقارب 33 هكتارًا قُسّمت إلى جزأين رئيسيين؛ قلعة في الشمال، ومستوطنة من الطوب اللبن تمتد جنوبًا وشرقًا،
وأوضح الأثري محمد إبراهيم، مدير الآثار بالوادي الجديد، أنه قد أحاطت بالمدينة أسوار دفاعية على مستويين: سور خارجي يلفّ الكيان الحضري كله، وآخر داخلي يخص قصر الحكام، تعلوه أبراج مراقبة، مع مداخل غير مباشرة تُصعّب الاقتحام وتُظهر حرفية في الأمن المعماري.
وتابع قائلا : إنه بحسب ما كشفته الحفريات، وُضعت أماكن العبادة بجوار السور الغربي الكبير على امتداد شمال–جنوب في هيئة أربع مقصورات، ثلاث منها متجاورة ورابعة إلى الشمال الغربي قليلًا، مع ملحقات خدمية جنوبها. إلى الجنوب قامت بيوت الموظفين والعمّال، متفاوتة المساحات وبعضها بطابقين، وإلى الشرق ممر طولي يفصل بين المقصورات وقصر الحاكم، فيما كشف شرق الممر عن قصر فسيح بصالات استقبال ذات قواعد جيرية أرضية، وجناح خاص للنوم والراحة بسقوف خشبية من السنط، مغطاة من أسفل بطبقة ملاط ملوّنة بالأحمر والأبيض والأصفر.
أوضح مدير آثار الوادي الجديد، أنه يتصدّر قصر الحاكم المشهد في شمال المدينة، ويُعرَف بقاعته ذات الأعمدة. يمتد بطول يقارب 225 مترًا شمال–جنوب، وعرض 95 مترًا شرق–غرب، ويُعد أهم أجزاء المدينة؛ مقر الحكم والإدارة ومساكن النخب في أواخر الدولة القديمة وبدايات الانتقال الأول.
وأشار إلى أنه يضم القصر سورًا داخليًا مستقلًا بطول يقارب 210 أمتار وعرض 64 مترًا، وسُمك جدار يناهز مترين، وممرًا يفصل القصر عن البيوت الجنوبية الغربية الملحقة به، في تكوين يُثبت قصدية التعقيد الأمني، وبحسب التسلسل الزمني للحكام المحليين في الواحات، يرجّح باحثو المصريات أن يكون خنتي-كا هو المشيّد الأول للقصر، وأن مدو-نفر أقام فيه خلال المرحلة الأولى من السُكنى، ثم عاود مدو-نفر (حاكم لاحق يحمل الاسم ذاته) استخدامه مع بداية المرحلة الثانية في عصر الانتقال الأول.
الدكتور صبري يوسف عبد الرحمن، الباحث في آثار الواحات، قال إن عين أصيل تنفرد بتخطيط يُؤهلها لتكون مقرًا للحكم والإدارة في الواحات منذ الأسرة السادسة حتى عصر الانتقال الثاني، مع استخدام مكثف للطوب اللبن واقتصاد مدروس في توظيف الحجر كما أن القصر شبيه بالقصور الرئاسية من حيث الوظيفة والتعقيد، وتُظهر مداخله غير المباشرة وسوره الداخلي وامتداد ممراته أننا أمام عقل تخطيطي يُوازِن بين الهيبة والأمن.
وتابع صبري، أنه تكشف البقايا عن ورش لصناعة النحاس والصوان، وأربع "فواخير" متكاملة العناصر: أحواض إعداد الطين، وأماكن التشكيل، وأفران الحرق، جرى كذلك توثيق مخابز بأفران وأحجار طحن وأوانٍ فخارية لخبز الخبز، ما يشي بنشاط إنتاجي منظم لا يلبّي حاجات القصر فحسب، بل يغذي سوقًا داخلية لطبقات الموظفين والعمّال والحرفيين، ويُرجّح أن المدينة استقدمت عمالة من خارج حدودها، في ممارسة تُعد سابقة لسياسات استقدام العمالة في العصور اللاحقة.
رغم ازدهارها، واجهت عين أصيل كارثة حريق واسع طال القصر وأجزاء من المستوطنة بعد نحو ثلاثة أجيال من نشأتها.
وقال الدكتور صبري، إنه غير أن الحياة لم تنقطع؛ إذ جرى إعمار أجزاء واسعة خلال الانتقال الأول، مع إعادة بناء جدار محيط وقناة مائية، إلى جانب ترميمات كبيرة أتاحت لعلماء الآثار قراءة طبقات البناء وأسلوب تشييد منشآت الدولة القديمة بطريقة أدق، ويستدل باحثو الموقع على أن التخلي النهائي عن المدينة سبق العصر البطلمي، إذ لم تُسجَّل بقايا رومانية حتى اليوم، ما يجعل عين أصيل "مدينة دولة قديمة" خالصة الهوية.
ويروي مدير الآثار المصرية بالوادي الجديد، الأثري محمد إبراهيم، قصة خروجها إلى النور الحديث، موضحا أنها في يناير 1947 حين كشفت عاصفة رملية غير مسبوقة أطرافًا من المدينة، وبعد عقدين تقريبًا، جرى تدشين أول موسم حفر علمي في أكتوبر 1968 بقيادة عالم المصريات أحمد فخري (1905–1973)، فكشف جدرانًا من الطوب وأواني فخار وكتلًا حجرية منقوشة، وألقى الضوء على ملامح المعمار والفنون في أواخر الدولة القديمة، توقفت الأعمال بوفاة فخري، قبل أن يستأنف المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة المهمة في 1978 بإشراف عالم المصريات جان فيركوتير، فاستكمل توثيق التخطيط والطبقات ووظائف المنشآت.
وأكد إبراهيم، أن المدينة قُرئت موقعيًا كمركز إداري مرتبط بحكمي بيبي الأول وبيبي الثاني، وتُظهر الأختام والتنظيم المخزني أن الرقابة والجباية جرى ضبطهما عبر قنوات رسمية، مشيرًا إلى أن الأسلوب الإداري المكتشف يتضمن توثيق الصادر والوارد على ألواح طينية صغيرة بحجم كف اليد.
وقال إبراهيم، إنه من بين أهم اكتشافات قلاع عين أصيل ألواح طينية منقوشة بالهيراطيقية تعود للأسرة السادسة، حملت أسماء حكّام بالواحات البحرية وأفراد من أسرهم، وقدّمت مادة توثيقية نادرة عن شبكة الإدارة في أطراف الدولة القديمة وارتباطها بالمركز في الوادي.
كما ظهرت كتل منقوشة من أعمدة ومقابر تُؤرَّخ لعصر الدولة الحديثة (الأسرتان الثامنة عشرة والتاسعة عشرة) دلالةً على تفاعل الذاكرة المكانية للموقع مع أزمنة لاحقة، وإن ظلّت البنية العمرانية الأساسية ممهورة بطابع الدولة القديمة.
الدكتور صبري يوسف أكد أن العثور على ألواح طينية مختومة بنقوش هيراطيقية في قلب الصحراء ليس تفصيلًا عابرًا؛ بل وثيقة دولة تُثبت أن عين أصيل كانت عقدة إدارية متصلة بمركز الحكم، وأن موظفيها طبّقوا إجراءات جباية وتخزين ورقابة بصرامة.
تذهب القراءة الأثرية إلى أن عين أصيل حالة شبه وحيدة مكتملة من مدن الدولة القديمة الباقية في مصر، لأسباب مرتبطة بالاستيطان الطيني بعيدًا عن مياه النيل، ثم الحريق الذي «جمّد» طبقات البناء، وأخيرًا العاصفة التي كشفتها دون أن تُلحق بها تدميرًا شاملًا. ويتبدّى التفرد كذلك في ضخامة بعض المساكن مقارنة بأمثلة نادرة في وادي النيل، وفي حضور شُرفات السطح المرتبطة بسلالم داخلية، ما يضيف طبقة وظيفية ومعيشية لقراءة الحياة اليومية.
قال محسن عبد المنعم مدير الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، إن غياب البقايا الرومانية عن الموقع يُعزّز تأريخه كمدينة دولة قديمة خالصة، مضيفًا: الموقع اليوم بمثابة كتاب مفتوح لمدرسة التخطيط والإدارة في مصر القديمة، من السور إلى القصر، ومن المقاصير إلى الفواخير والمخابز.