إعلان

تنفيسة| الشاعر الحزين المتألم (2 – 2)

محمد جادالله

تنفيسة| الشاعر الحزين المتألم (2 – 2)

محمد جادالله
07:21 م الإثنين 19 مايو 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

توقفت حكايتنا في المقال السابق عند تساؤل: مَنْ مِنْ الكُتّاب الآخرين تأثر شاعرنا بهم؟ وما هي علاقته بجماعة الإخوان المسلمين؟ ومن السبب في حادث موته؟ وما ستقرؤه الآن، قارئي العزيز، من سطور وحقائق، أرجو منك ألا تغيّر فكرتك عن الشاعر والأديب صلاح عبدالصبور. وما أقصده هنا هو علاقته بالسياسة، ولنبدأ بتساؤلنا الأول عن التأثر الذي مرّ به شاعرنا.
صديقي القارئ، ذكرنا في مقالنا السابق أن صلاح عبدالصبور تأثر بجبران، وهو ما وجهه إلى التأثر بنيتشه. فالشاعر يصف نفسه بعد أن قرأ كتاب نيتشه "هكذا تكلم زاردشت"، فيقول: "أي دوار يخلخل الروح عرفته بعد قراءة هذا الكتاب، وفلاسفة قليلون من بني البشر يستطيعون أن يؤثروا في الوجدان البشري، كما يؤثر نيتشه. هؤلاء هم فلاسفة الروح الذين تصبغ فلسفتهم بالشعر، ويغمسون قلمهم في دماء القلب".
كما تأثر عبدالصبور بالشاعر توماس ستيرنز إليوت، يقول: "كانت معرفتي بإليوت حتى ذلك الوقت لا تعدو قراءتي لبعض قصائده، مثل "الأرض الخراب" و"أغنية حب لألفريد بروفورك"، التي أحببتها، وما زلت أحبها كإحدى معلقات عصرنا".
ولكنه بدأ بالاهتمام أكثر بآراء إليوت في النقد، وتأثر بها بشكل واسع. لذا، يمكن لقارئ شعر صلاح عبدالصبور "أن يتلمس مدى تأثير إليوت شاعرًا وناقدًا في مجموعاته الشعرية، وخصوصًا في استعمال اللغة، واستخدام الأسطورة". إذ يقول الشاعر: "حين توقفت عند الشاعر ت. س. إليوت في مطلع الشباب، لم تستوقفني أفكاره أول الأمر بقدر ما استوقفتني جسارته اللغوية".
وبجانب ذلك كله، فقد اطلع الشاعر على التراث الشعري العربي القديم والحديث، فتأثر بالمعري وأبي تمام، كما قرأ لأرسطو وتأثر بكتابه عن الشعر؛ مما أثر في ثقافة الشاعر ومعرفته الواسعة. وهو ما جعله يدرك: "إن على الشاعر المعاصر أن يهضم التراث وأن يعيه حتى يتغلغل هذا التراث في نفسه بحيث يصبح جزءًا من تكوينه، يستطيع بعده أن يصل إلى أسلوبه الخاص. والشاعر من هذا المستوى يتجاوز التراث عادة، فيضيف إليه جديدًا ولا يأوي إلى ظله، بل يخرج إلى ساحة التجربة الواسعة ويحس إحساسًا عميقًا بسيطرته على اللغة، بل على الشعر".
ويُعد صلاح عبدالصبور "أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي (شعر التفاعلية)، فقد استطاع أن يلفت إليه الأنظار بديوانه الأول، ويعود ذلك لأسباب عدة منها: اهتمامه بالتجربة الاجتماعية البسيطة، والتجربة الوطنية، والتجربة الشعورية الذاتية التي تواجه ظلم الاستعمار وكبت الحريات، وكذلك في إتقانه بناء شكل يؤكد إبداعه وأصالته.
تأثر صلاح عبدالصبور بالمادية الجدلية، وبدأ هذا التأثر واضحًا جليًا في ديوانه الأول "الناس في بلادي". ويعترف الشاعر بذلك، إذ يقول: "ساعدتني الفلسفة المادية التي كنت اقتربت منها اقترابًا كبيرًا، وبخاصة بعد تخرجي من الجامعة عام 1951م، على أن أجد في الإنكار لونًا من الموقف الفكري الموحد المتماسك، وقد تكون مرحلة ديواني "الناس في بلادي" هي المعبرة عن ذلك الإحساس".
وفي علاقته بالسياسة، كان صلاح في بداية حياته متعاطفًا مع جماعة الدم والإرهاب "الإخوان المسلمين"، لكنه أخذ يقترب في أوائل الخمسينيات من الشيوعيين متأثرًا بما كان للماركسية آنذاك من جاذبية شديدة ولمعان فاتن عند كثيرين من الشباب المثقفين والأدباء والفنانين، يساعد في انتشارها بينهم تَأجُّج الحركة الوطنية، وظهور الوعي الطبقي، زيادة على ما ساد أروقة الجامعة المصرية من تيار عقلاني، كانت محاضرات طه حسين وأمين الخولي تزيده قوة وتدفقًا، ولهذين الأستاذين يدين صلاح بجانب كبير من ثقافته. وفي هذا الإطار – علاقته بالماركسية والشيوعيين – استطاع أن يفتك نفسه شاعرًا من أسر التقاليد الشعرية القديمة، ويخطو خطوة واسعة نحو التجديد.
ولقد نُقِدَ عبدالصبور ونقد؛ فلقد تعرض للنقد، حيث كتب الدكتور زكي نجيب محمود مقالًا بعنوان (ما هكذا الناس في بلادي) نقدًا لديوان صلاح عبد الصبور (الناس في بلادي)، ورد عليه هو بمقال بعنوان (ما هكذا النقد). ورغم هذا، كان يعترف دائمًا بقدر الدكتور زكي نجيب محمود.
وفي سنة 1974م، تعرض لحملة قاسية من كتاب مجلة الطليعة بالقاهرة لأنه تولى رئاسة تحرير مجلة الكاتب بعد تنحية المجموعة التي كانت تتولى التحرير من قبله. وبالموقف المتأني، سار بمجلة الكاتب وعاد المهاجمون يكتبون فرادى فيها. ونشرت مجلة الطليعة بعد ذلك مقالًا لواحد منهم يدافع فيه عن صلاح عبدالصبور وكان المقال بعنوان (ليس دفاعًا عن صلاح عبدالصبور).
أما عن النقد الذي وجهه هو، كان من خلال مقاله المشهور (والله العظيم موزون) يرد به على هجوم عباس محمود العقاد على الشعر الحديث.. ولكنه في أحاديثه الخاصة، وفيما يتعلق بالنشر، كان العقاد عنده هو العقاد وكفى.
وفي مساء يوم الأربعاء الموافق 12 أغسطس 1981م، رحل شاعرنا إثر نوبة قلبية حادة أودت بحياته، بعد مشاجرة كلامية ساخنة مع الفنان بهجت عثمان، تاركًا وراءه إرثًا عظيمًا وثروة شعرية هائلة يستفيد منها الأجيال القادمة.
فكان صلاح عبد الصبور شاعرًا يرى الشعر ترجمانًا للفكر وانعكاسًا للحياة والواقع المعيش، وتجاوز بلغته الشعرية عن المألوف إلى اللغة الإيحائية بمكوناتها، وأبعادها الرمزية، والإشارية، والأسطورية. فالقصيدة عنده "بناء محكم متدامج الأجزاء، وتشكيل منتظم تنظيمًا صارمًا".
استطاع من خلال تأمله في الإنسان وأطواره وعلاقته ومشكلاته أن يكتشف أن هناك ثلاثة طرق من الاجتهاد تحاول أن تمد بصرها في إنسانية الإنسان كي تساعده على تجاوز ذاته، ليتمكن من إعطاء معنى لحياته: الدين والفلسفة والفن.

إعلان

إعلان