إعلان

أتوبيس الرحمة والدفا !

محمد حسن الألفي

أتوبيس الرحمة والدفا !

محمد حسن الألفي
03:03 م الأربعاء 16 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في الصيف صار عندنا حر الخليج، وفي الشتاء نزل علينا صقيع أوروبا! وشتاء ٢٠١٩ جمع في حادث نادر بين الصقيع وتراب الخماسين ... الشديد البرودة وهذه أيضا عجيبة !

معظم المصريين "متكلفتين متكتفين" !

البرد يثقب العظم، ويتغلغل، ويقيم. تتجمد المفاصل، وتتجمد الدماء، ويفرك المرء كفيه طلبا للدفء، يأتيه في صورة كوب سحلب، أم نقول مج وفقًا للتطور في مصر. السحلب ساخن والبخار يتصاعد من جوفه ومن أنفوفم البردان تحت عشرة بطاطين. ومع شدة البرد تزأر المعدة جوعانة، فينطر البردان الجائع بطاطينه، ويهرول في خفة الذئب إلى الثلاجة فيخطف ما شاء من طعام.

لا يمكن أن يكون الوضع مماثلاً بالنسبة للمشردين البردانين في شوارعنا وفي الأزقة والحواري وتحت الكباري!

كنا نسمع ونرى صور المشردين الـ Homeless في شوارع وحدائق واشنطن ورأيتهم بعيني وفجعت في مناظرهم وحالة البؤس، وقت عملي مذيعا في صوت أمريكا عامي ١٩٨٥ و١٩٨٦.

في أمريكا توجد بيوت إيواء لساعات، وتوجد بيوت إطعام محددة المواقيت.. اليوم، في مصر، في شتاء ٢٠١٩، ولأول مرة بدأنا نتعرف على جثث ناس تموت من البرد، أشهرها السيدة التي ماتت بردانة في المحلة. الخبر هز الرأي العام مدة شرب مج السحلب !

كأن هذا الرأي العام نفسه ليس قاسيًا، طول العام، حتى يأتيه رمضان فيصير طيب القلب حانيًا لثلاثين يوما فقط!. نعم ظهرت فينا قسوة، لعل سببها انكشاف الأدوار والتعري الاجتماعي وشيوع حالة التبجح والتباهي بالفضائح، وانحسار الشعور بالحياء، والخوف من الجرسة! والجرسة تعبير تراثي مأخوذ من التجريس، إذ كان القوم يضعون الشخص الذي يريدون فضحه علي ظهر حمار ووجهه ناحية الذيل وظهره ناحية رأس الحمار، ويطوف به في الشوارع فيعلم الناس أنه لص أو... أو...! المهم أننا فقدنا جزءًا كبيرًا من الإحساس بالرحمة، وربطنا العطف بالصوم، كأن الأعمال لا تسجل إلا في الشهر الكريم.

وبينما الناس في تداول محموم لأخبار موتى الصقيع، إذا بقرار أشاع الدفء في الأوصال، فقد أمر الرئيس بإطلاق أتوبيسات في الشوارع والميادين والأماكن التي يمكن أن تكون ملاذات للمشردين وللصغار ولكبار السن، تخلى عنهم أهلوهم !

وهكذا خرجت سيارات تحمل شعار نتشارك، وبادج تحيا مصر ووزارة التضامن الاجتماعي، وأرقام تليفونات للإبلاغ عن حالات واجب إنقاذها. بالفعل في بلدنا حاجة حلوة، وحاجة جديدة، ويمكن أن يتسع نطاق أسطول الدفا هذا، ويمكن تأسيس جمعية مدنية تتولى رعاية المشردين والمنبوذين والتائهين والبردانين والجوعى، ينفق كبار الرعاة عليها، وبذلك يكون المجتمع المصري في تضامن، وفي تعاطف .

ليس يكفي أبدا أن تريح ضميرك ببطانية مهترئة مما عفى عليها الزمن في دولابك، وليس يكفي أن تمنح البردانين طاقية. وكما عرفنا موائد الرحمن، فإن على الموسرين في هذا البلد توفير الوجبة الساخنة والهدمة الكافية والنومة المطمئنة لمن قست عليهم الحياة وشردتهم وأهانتهم. لماذا لا ننشئ بيوتا للرعاية وللإطعام وللمبيت، يقصدها كل من هام على وجهه، أو ضاقت به السبل، أو نخر البرد في مفاصله، وأكلت الكحة شعبه الهوائية !

لا يجوز أن تعيش في الدفء، وغيرك يموت في الصقيع. لا دين ولا مروءة ولا أخلاق.. ولا ضمير آدمي يسمح بهذه القسوة.

 

إعلان