إعلان

الهجرة النَّبويَّة والشَّباب

الدكتور محمود الهواري

الهجرة النَّبويَّة والشَّباب

08:12 م الأحد 23 أغسطس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


بقلم: د. محمود الهواري
مدير عام شئون هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف

مخطئٌ من يظنُّ أن هجرة النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من مكَّةَ إلى المدينةِ كانت مجرد رحلةٍ من بلدٍ إلى بلدٍ، أو حدثٍ تاريخيٍّ كغيره من أحداثِ الزَّمان؛ فسيبقى هذا الحدثُ مدرسةً يتعلَّمُ فيها المسلمون الدُّروسَ، ويأخذون منها العظاتِ، ويسترشدون بها في طريقِ سيرِهم إلى الله تعالى.

ومن أهمِّ ما ينبغي أن تذكرَه الأوطانُ وهي في سبيلِ البناء، ما كان للشَّبابِ في حادثِ الهجرةِ من دورٍ مهمٍّ، وأثرٍ كبيرٍ وفعَّالٍ، وهذا الدَّورُ ذاته هو الَّذي ينبغي أن تفطنَ له المؤسَّساتِ وهي تباشرُ مهامَّها فتجعلَ من الشبابِ قضيَّة، وهم حقًّا قضيَّة: قضيَّة الماضي والحاضر والمستقبل.

إنَّ الشَّبابَ في أيِّ أمَّةٍ من الأمم، هم عمودُها الفقريُّ الَّذي يشكِّل الحركةَ والحيويَّة، والطَّاقةَ والقوَّةَ، والعطاءَ المتجدِّدَ في جميع ميادين العملَ الإنسانيِّ والاجتماعيِّ والثقافيِّ.

ولا أدري لماذا تغيبُ قضيَّة الشَّبابِ عن كثيرين ممَّن وكِّلوا بها، وائتمنوا عليها، فلا ترى لها أثرًا إلا في تنظيرٍ باهتٍ، وكلمات عنتريَّةٍ، يسأم منها السَّامعُ والقائلُ!
وسبحان من يدبِّر الكونَ، وللهِ في تصريفِ ملكِه شئونٌ!
جاء حدثُ الهجرةِ ليذكِّرنا بهذا الملمحِ الشَّبابيِّ الَّذي رافقَ الرحلةَ من بدايتِها إلى نهايتِها، منذ خرجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من بيته إلى أن وصلَ إلى غارِ ثور، وبقي فيه ثلاثًا، ثم انطلقَ إلى المدينةِ المنوَّرةِ، وتمَّت الرِّحلةُ المباركةُ.

ومن الَّذين صوَّروا هذا الملمحَ الشَّبابيَّ الَّذي يفيضُ قوَّة وحيويَّة وحبًّا وتضحيةً، وتُذكرُ الهجرة فيذكرون معها: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وعامرُ بنُ فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر، رَضِي الله عنهم أجمعين.
فأمَّا عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، فقد ضربَ مثالًا للجنديِّ الصَّادقِ المخلصِ، الَّذي يفدي قائدَه بحياتِه؛ وذلك أنَّه نام رضِي الله عنه ليلةَ الهجرةِ على فراشِ سيِّدنا رسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مقدِّمًا حياةَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حياته، ونفسَه على نفسِه.

وقد كان من المحتمل أن تهويَ سيوفُ فتيان قريشٍ على رأسِه؛ ظنًّا منهم أنَّ المسجَّى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو أن تنالَ السُّيوفُ من جسمِه؛ انتقامًا منه؛ لأنَّه سهَّل لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الخروجَ من بين أيديهم آمنًا، وقد اجتمعوا لقتلِه، ولكنَّ عليًّا رضِي الله عنه وهو الشَّابُ الصَّغيرُ لم يبالِ بذلك، ولم ترهبْه سيوفُ المشركين، ولم تفزعْه قوَّتُهم، وإنَّما كان ما يشغله أن يسلمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منهم فيسلمَ الدِّينُ للنَّاس.

إنَّ عُمرَ هذا البطلِ الهمامِ الَّذي قدَّمَ نفسَه عن رضًا كان يوم الهجرةِ يزيدُ على العشرين عامًا بقليلٍ، فهل كان سيدنا عليٌّ حينئذ طفلًا يلهو، أو صغيرًا يعبثُ؟!

وإذا كان كثيرٌ من النَّاس -حتَّى المتخصِّصين منهم- يقولون بأنَّ مرحلةَ طفولةِ الجنسِ البشريِّ تزداد جيلًا بعد جيلٍ؛ فإنَّ التَّاريخ ينطقُ بغير هذا، وهذا مشهدٌ من مشاهدِه يحملُ رسالةً للآباءِ والمربِّين الَّذين يكثرون تدليلَ أولادِهم حتَّى غلبتْ طفولتُهم رشدَهم، وغلبَ ضعفُهم قوَّتَهم، يفصحُ هذا المشهدُ عن أنَّ «الرُّجولةَ تُصنعُ منذ الصِّغرِ»، وعليٌّ وأضرابُه خيرُ شاهدٍ.

وإذا تركنا عليًّا إلى عبدِ الله بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، فسنجد فتًى ذكيًّا ألمعيًّا، ذا فطنةٍ وقَّادةٍ، وبصيرةٍ نافذةٍ، وفهمٍ ثاقبٍ، وقلبٍ واعٍ؛ إذ كان يبيتُ بين أهلِ مكةَ يتسمَّعُ ما يكيدون به رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحبَه، وما يُدبِّره زعماؤها لوقْفِ مسيرةِ الدَّعوة، وما يخطِّطون له، ويحيطُ بالأخبارِ والأحوالِ ثمَّ ينقلُ ذلك كلَّه بدقَّةٍ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

لقد كان عبدُ الله بن أبي بكرٍ رضي الله عنه يتمتَّعُ بحسٍّ أمنيٍّ عالٍ، وحذرٍ شديدٍ؛ فهو يجمعُ المعلوماتِ في نهاره، ويأوي في ليله إلى الغارِ ليخبرَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ووالدَه بما رأى وسمعَ وجمعَ من معلوماتٍ؛ حتَّى تكون خطَّةُ الهجرة دقيقةً، والتَّحرُّك فيها مدروسًا، دون تعرُّضٍ للخطرِ.

إنَّ عبدَ اللهِ بنَ أبي بكرٍ رضِي الله عنه قام بعملٍ خطيرٍ، فهو يتسمَّع أخبار قريشٍ، ويرصدُ تحرُّكاتهم، وينقل المعلوماتِ عنهم، ولو علم أحدُ زعماءِ مكَّة بهذا ما أفلتَ من السُّيوفِ! ولكنَّه بجرأتِه وبقلبِه وبحنكتِه لم يتركْ خلْفه أيَّ خيطٍ يقودُ قريشًا أو عينًا من عيونِها إلى مكانِ اختباء النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبِه. وكان في ذلك الوقت ابن بضعٍ وعشرين سنة لا غير.

وأمَّا عامرُ بن فهيرة الَّذي لا يعرفُه كثيرٌ من النَّاس، فقد كان مولًى لأبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعُذِّبَ في الله، فاشتراه أبو بكر، وأعتقه، وكان حسنَ الإسلامِ.

ولما خرجَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبو بكرٍ مهاجرَين، أمرَه أبو بكرٍ أن يأتيَ بغنمِه بعد أن يرعاها؛ ليصيبا من لبنِها، فكان عامرٌ يرعى في رعيان أهلِ مكة، فإذا أمسى أراحَ عليهما الغنمَ فاحتلباها، وإذا غدا عبدُ الله بن أبي بكرٍ من عندهما اتبعَ عامرُ بن فهيرة أثرَه بالغنمِ حتَّى تذهبَ آثارُ أقدامِه؛ فلا تعرفُ قريشٌ أين كان عبدُ الله.

وكان سنُّ عامرٍ وقت الهجرةِ بضعًا وثلاثين سنةً.

أولم يكن عامرٌ يخشى أن يتبعَه المشركون في مسيرِه إلى الغارِ؟ أو يلقَوه حين يرجعُ فيسألوه عن محمَّدٍ وصاحبِه؟ وكيف غامرَ بنفسِه في وقتٍ التهبتْ فيه قلوبُ كفَّارِ مكَّةَ حنقًا وغيظًا على الدَّعوة؟
لقد كانت خطَّةُ الهجرةِ محكمةً، وكان للشَّبابِ دورٌ تنفيذيٌّ مهمٌّ.

وحتَّى لا يُتَّهمَ الإسلامُ بأنَّه دين ذكوريٌّ، وحتَّى لا تسرعَ الأقلامُ إلى النَّفخِ في رمادِ «ظُلم الإسلام للمرأةِ»، فها هي كتب التُّراثِ تنطقُ بأنَّ دور الشَّباب في الهجرة لم يكن مقتصرًا على الرِّجال، بل كان للمرأةِ في الهجرةِ دورٌ بارزٌ، وممَّن سجَّلَ التَّاريخُ وخلَّدت السِّيرة أسماءهم أسماءُ بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها، وموقفها في الهجرة يؤكِّد أنَّ النِّساءَ العاقلاتِ يستطعن أنْ يقدِّمن للأمَّةِ خدماتٍ جليلةً؛ فهنَّ أرقُّ عاطفةً، وأسمحُ نفسًا، وأطيبُ قلبًا.

ولننظر إلى موقفِ أسماء بنت أبي بكرٍ، حين حملتْ أمانةً يُشفقُ الرِّجالُ من حملِها؛ إذ كانت تمشي من مكَّةَ إلى الغار كلَّ يوم مرَّاتٍ، تقطعُ ثلاثةَ أميالٍ إلا قليلًا في جوفِ اللَّيلِ، ووحشةِ الطَّريقِ، بين صحراءَ موحشةٍ، وظلمةٍ مخيفةٍ، ونفسٍ حذِرةٍ من رصدِ قريشٍ، فهي تمشي متخفِّيةً حذرةً مترقِّبةً، تصعدُ وتنحدرُ حتَّى توافي رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وصاحبَه كلَّ ليلةٍ بالزَّادِ والماء، وبما عسى أن تكونَ قد سمعتْه، أو رأتْه من حديثِ القومِ وخبرِهم، فأيُّ عزيمةٍ تلك، وأيُّ همَّةٍ؟!
لقد قامت المرأةُ بدورٍ فدائيٍّ، وحملت أمانةَ الإمدادِ والتَّمويلِ للرِّحلة المباركة، وجهزت الرَّكبَ المهاجرَ إلى المدينةِ بالزَّاد والماء، وشقَّت نطاقَها وربطته به؛ فقيل لها ذات النِّطاقين.

ولئن سلمت الفتاةُ «أسماء» من عثراتِ الطَّريقِ ووحشةِ الصَّحراء تحت جنحِ اللَّيل البهيمِ، فإنَّها لم تسلمْ من أذى كفارِ قريش؛ إذ جاءها نفرٌ منهم، وأحاطوا بها إحاطةَ السّوار بالمعصمِ، وهي وحيدةٌ بينهم لا تجدُ من يدفعُ عنها، فانطلق منهم لسانٌ غضوبٌ في وجهٍ كئيبٍ فسألها صارخًا: أين أبوك يا بنتَ أبي بكر؟ فرَّدتْ في صمودٍ وثقةٍ وإباءٍ: لا أدري أين أبي!! فرفع أبو جهلٍ يدَه، وكان فاحشًا خبيثًا فلطم خدَّها لطمةً طرحَ منها قرطَها، ولم يوهنْ ذلك شيئًا من عزيمتِها.

ولم ينته دورُ المرأة في هذا الحدثِ الَّذي سطَّره التَّاريخ عند هذا الموقفِ، بل سجَّل لها التَّاريخُ الإنسانيَّةَ في أرقى معانيها، حين أتاها جدُّها أبو قحافة الَّذي أصابه القلقُ لمَّا خرجَ ابنُه أبو بكر بمالِه كلِّه، وكان قد ذهب بصره فقال: والله إنِّي لأراه قد فجعَكم بماِله مع نفسِه. فقالت أسماء العاقلة: كلَّا يا أبتِ إنَّه قد تركَ لنا خيرًا كثيرًا، وأخذتْ أحجارًا فوضعتْها في كوَّة في البيتِ، كان أبو بكرٍ يضع مالَه فيها، ثم وضعتْ عليها ثوبًا، ثم أخذتْ بيدِ جدِّها فقالت: يا أبتِ ضع يدَك على هذا المالِ، فوضعَ يدَه عليه. فقال: لا بأس إنْ كان تركَ لكم هذا فقد أحسنَ، وفي هذا بلاغٌ لكم. ولم يكن أبو بكر قد تركَ شيئا من مالِه، ولكنَّها أرادتْ أن تسكنَ نفسَ الشَّيخِ.

وبهذه الفطنةِ والحكمةِ سترتْ أسماءُ أباها، وسكنتْ قلبَ جدِّها الضَّرير.

وهذه مواقفُ النِّساءِ العاقلاتِ! وهذا درسٌ من أسماء رضِي الله عنها تعلِّمه لنساءِ الأمَّة جيلًا بعد جيلٍ، وتبيِّن كيف تكونُ المرأةُ صاحبةَ عطاءٍ، وفكرٍ، وصمودٍ؛ لأداء الأمانة الَّتي كلِّفت بها. فأين هذا من بعض نِساء عصرنا اللَّاتي خُدعنَ، وشُغِلنَ عن أماناتهنَّ؟!
وختامًا أقولُ: إنَّنا نلمحُ في هذه الرِّحلةِ المباركةِ صورةً ممَّا يجبُ أن يكون عليه الشَّبابُ المسلمُ ذكورًا وإناثًا في سبيلِ الله عز وجلَّ، من أجلِ تحقيقِ مبادئِ الإسلامِ، الَّتي تحفظُ الأوطانَ، وتعمِّر الأكوانَ، وتلك هي مزيَّة الشَّبابِ في حياة الإسلامِ والمسلمين في كلِّ زمنٍ وعصرٍ.

ونتمنَّى أن نرى شبابَنا كعليٍّ وعبدِ الله وعامرٍ رضي الله عنهم، ونرى فتياتِنا كأسماء رضي الله عنها.

إعلان