إعلان

البحث العلمي ميت إكلينيكيًا.. والدستور "كلام معسول" (تقرير)

06:41 م السبت 04 يونيو 2016

أكاديمية البحث العلمى

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- دعاء الفولي:

كان الأمل يطرق قلوب البعض عام 2014، حين أقرّ الدستور في مادته رقم 23، أهمية البحث العلمي، وخصص له نسبة 1% من ميزانية مصر-ما يُعادل مليار جنيه- وألزم الدولة بتحسين أحوال باحثيها، بعدما كان الدستور القديم يتحدث عن البحث العلمي لمامًا ضمن مادة التعليم.. مر عامان ولازال البحث العلمي مجرد مفردات رنّانة على الورق؛ فلا تطور البحث، ولا وجد معظم الباحثين من يدعمهم من أجهزة الدولة، إذ تجري حياتهم بين مكاتبها سعيًا وراء من يستمع لفكرة أو ينظر لابتكار، وفيما يدور الروتين دورته، يتراجع ترتيب مصر العلمي، حتى وصل للمركز مائة عام 2015، ضمن 141 دولة تتنافس على الابتكارات العالمية ومدى تحقيقها للنمو الاقتصادي، طبقًا لتقرير منظمة الملكية الفكرية، التابعة للأمم المتحدة.

التعليم المصري بمنأى عن البحث

 

من المناهج نفسها تبدأ مشكلات الباحثين، في مرحلة دراستهم الجامعية، حسبما يشرح أحمد فرج، الحاصل على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة ليثبريدج الكندية، ويعمل مُدرسا بجامعة بنها. إذ يقول إن "الطلبة عندنا في الجامعات العلمية بياخدوا المناهج بالعربي والإنجلش فلما بيخرجوا برة مبيعرفوش يتعاملوا مع الناس"، ثم تأتي مشكلة تأهيلهم للحصول على منح دولية من جامعات هامة "الجامعات دي بتطلب معايير معينة احنا مش بننفذها.. مش عشان معندناش باحثين شاطرين بس عشان محدش مركز عليهم". تأتي جامعة القاهرة في المركز الـ474 على مستوى العالم، والأولى على مصر ، طبقًا لبرنامج "Webometrics Ranking of World Universities" أحد البرامج التابعة لوزارة التربية والتعليم بإسبانيا، وهدفه الرئيسي هو تشجيع البحث العلمي لتحسين تقدم المستوى العلمي والتكنولوجي. 

1

مكث "فرج" في الهند لثمانية أشهر، تابع كيف تؤهل كليات العلوم هناك الطلاب ليلتحقوا بالجامعات الغربية، تحديدًا في أمريكا وكندا "وجزء من الهنود دول بيرجع بلده لما يتعلم يعمل مراكز أبحاث وينقل اللي اتعلمه ودلوقتي في أكثر من 100مركز بحثي هناك بيشتغل"، مع الوقت صارت الهند من أهم الدول المُصدرة للتكنولوجيا، وأصبح 7% من إجمالي الناتج القومي بها يعتمد على ذلك المجال.

 

تجارب سيئة

عام 1998 كان ميعاد المهندس محمد فوزي مع ابتكاره الأول؛ منظم جهد يعمل على تقليل الاستهلاك الكهربائي "وساعتها سابوني سنة وشوية وبعدين قعد معايا واحد مكنش مختص في الهندسة الكهربية وحكم على الفكرة إنها صعب تنفيذها". انقطع فوزي عن التفكير في الابتكار أكثر من 12 عامًا، بسبب رد الفعل الذي تلقاه حين ذهب لتسجيل فكرته الأولى.

 

بين رئاسة الوزراء، أكاديمية البحث العلمي، المركز القومي للبحوث؛ تاه "فوزي" لسنوات، لذلك الدستور مجرد "حبر على ورق" بالنسبة له. يلاقي خريج كلية هندسة الزقازيق، ويلات جمّة حين تأتيه فكرة ابتكار ويرغب في تسجيلها بأكاديمية البحث العلمي على سبيل المثال، فيجب عليه دفع رسوم تبدأ من 150 جنيهًا للحفاظ على الملكية الفكرية "يعني لو انا مسجل أربع أفكار أدفع 500 جنيه كل سنة"، وقد تصل الرسم أحيانًا لغير المصريين لـ7000 جنيهًا. 

2

منذ أيام عاود المهندس الأربعيني الذهاب لأكاديمية البحث العلمي، لتسجيل فكرة أخرى عن جهاز إنذار وإطفاء يوضع في المركبات، يُساعد السائق على إدراك ارتفاع درجة حرارة المحرك، فيكون على السائق الاختيار بين التعامل بشكل يدوي وإيقاف السيارة أو يترك الأمر للجهاز الذي سيقوم بإطفاء الحريق حال حدوثه، من خلال أنبوب يحوي المادة المُثبطة للحرائق. خلال آخر تجربة، لاحقت مدة العام ونصف فوزي "مع إني عامل النماذج ومخلصها يعني الموضوع لو اتشاف واتعمل له دراسة ممكن يتصنع وينزل السوق". ورغم أن تكلفة جهاز الإنذار والإطفاء لم تتعد الخمسة آلاف جنيه، غير أن هذا الرقم قد يكون مُكلفًا للطلاب أو الشباب الأصغر سنًا "احنا عشان تجربة تنجح مرة بنشتغل عليها 10 مرات وكل دة من جيبنا."

3

مواد الدستور والقوانين المصرية جيدة لكنها تقبع داخل الأدراج بجوار الابتكارات الأخرى التي لم تر النور، حسبما يقول "فوزي". يعتقد أنه إذا كان صاحب القرار لأنشأ في كل محافظة مكتب أو اثنين لمناقشة تلك الابتكارات وتنفيذها فورًا، فأسوأ شيء قد يلاقيه المبتكر هو عدم التقدير المعنوي، كما حدث معه عام 2014، إذ كانت رسائله لمجلس الوزراء لا تتوقف بخصوص بعض الأبحاث التي قدمها "وساعتها ردوا عليا وشكرونيي وطلبوا مني أكتب الأزمة أو اللي أنا عايزه على صفحة مجلس الوزراء على فيسبوك"، لم يتأخر "فوزي" ظنّا منه أن موعد الاهتمام به قد حلّ، لكنه لم يلق رد أيضًا.

 

 

البحث العلمي "مبيأكلش عيش"

"مطلوب مني أخترع وأروح مؤتمرات وأحسّن دراستي وأذاكر وكل دة من حسابي"، يقول المهندس فوزي، مضيفًا أنه لم ير أي ناتج جيد لنسبة الـ1% المخصصة في الدستور للبحث العلمي.

 

 

في المقابل يقول محمد حسن، الباحث وأستاذ الهندسة في جامعة حلوان، إن تلك النسبة ليست كافية أبدًا "دولة زي إسرائيل بتدي البحث العلمي أولوية أكتر مننا لحد ما جامعاتها بقت متطورة جدًا"، نماذج مختلفة يراها الباحث عانت منذ سنوات بسبب الحرب واستطاعت النهوض مثل اليابان أو كوريا "عشان استثمروا فلوسهم في البحث العلمي".

4

نتيجة لنقص الدعم المادي، يعاني "حسن". ليس فقط بسبب أبحاثه التي لا تجد أحيانًا من يمولها، بل ابتداءً من مرتبات المعيدين في الجامعات، والتي تكون في متوسط 2500 جنيهًا "متعينهمش تمامًا على إنهم يتفرغوا للشغل البحثي بتاعهم"، لذا يتجه الكثيرون لإنتاج الأبحاث النظرية دون التنفيذ "لأن دة أسهل وأرخص من عمل التجارب" خاصة إذا كانت المعامل غير مُجهزة أو قديمة.

 

يعمل "حسن" كباحث في جامعة أوتو فون-غريكي ماغديبورغ الألمانية، وله بعض الأبحاث في مجلات علمية شهيرة مثل دورية "”energy، التي نشر بها تجربة عام 2015، اشترك فيها مع بعض الزملاء في هندسة المطرية لإنتاج المياه النقية من الهواء الجوي باستخدام الطاقة الشمسية. وقدمت التجربة تقنية تقوم علي الطاقة المستدامة تسمى "استخراج المياه من الهواء الجوي" كحل مفيد للمناطق النائية والتي تعاني من نقص المياه العذبة. ويعتمد هذا النظام على امتصاص بخار الماء من الهواء المحيط أثناء الليل.. ثم يتم إعادة توليد المياه بتكثيف بخار الماء خلال النهار بالطاقة الشمسية.

صنع القائمون على التجربة نموذج أولي للجهاز الذي سيقوم بالعملية. وكشفت النتائج أن إجمالي تبخر المياه يمكن أن يصل إلى 2.32 لتر يوميا من المتر مربع، ورغم أن التجربة لاقت صدى جيد في الأوساط العلمية، غير أنها لم تجد من يتبنّاها إلى الآن، سواء الجهات الحكومية أو الشركات الخاصة فـ"لا أحد يستجيب" على حد تعبير "حسن".

 

التجربة الألمانية

بحكم خبرته البحثية بين ألمانيا ومصر، يعلم "حسن " أن العقول المصرية ليست أقل من نظيرتها، إنما هي إتاحة الفرصة والإمكانات، والأهم تهيئة المحيط النفسي للباحث، فقد كان ذلك أكثر ما يسعى له الأستاذ الذي عمل تحت قيادته في ألمانيا "كان بيحاول يريحنا عشان يلاقي ابتكارات وأفكار فذة"، بينما في مصر لا تمس ضعف المرتبات المعيدين فقط، فالأساتذة في حاجة لنظرة لحالهم المادي "يعني أستاذ الجامعة ميصحش يبقى متمرط في المواصلات ومشغول بلقمة العيش.. إزاي الشخص دة هيطلع من تحت إيده باحثين مبدعين؟".

 

في المقابل ليست الصورة قاتمة دائمًا، فقد نجح "حسن" من خلال تجربة تعمل على إنتاج الطاقة من الأمواج، في الاتفاق مع أحد الشركات الخاصة التي بدأت في تنفيذ الفكرة "وهتصدر التربينات اللي هتتعمل لألمانيا"، وبسبب نفس التجربة حصل أستاذ الطاقات المتجددة على دعم من أكاديمية البحث العلمي لإنشاء محطة توليد طاقة في الإسكندرية، لكنها تنتظر الموافقات الأمنية، ورغم أن الدعم الحكومي ليس كبير "لكن احنا بنحاول وربنا يسهل".

المحاولات الفردية لبعض الراغبين في تطوير منظومة البحث لم تنقطع؛ كحال خالد زنون، رئيس جمعية "بنك الأفكار"، التي تعمل كحلقة وصل بين المبتكرين والباحثين وأجهزة الدولة لتطبيق تلك الأفكار. إلا أن المشاكل المادية تُلاحق آل الجمعية أيضًا، فهي مؤسسة غير هادفة للربح.

لا يطمح "زنون" لأكثر من تطبيق الميزانية الموجودة في الدستور "الفلوس مش قليلة لكنها للأسف بتروح على تكريم أساتذة الجامعات والمجاملات ومفيش باحثين في الموضوع".

 

من قلب الدولة

منذ سبع سنوات أنشأ "زنون" مشروعه "بنك الأفكار"، على مدار السنوات تلقى ابن محافظة المنوفية أكثر من 30 ألف فكرة، بين ابتكارات علمية، وأفكار يمكنها تطويرها لتدخل حيز التنفيذ. وخلال تلك الرحلة تواصل مع جميع منافذ الدولة، سواء أكاديمية البحث والعلمي والجامعات أو بالوزارات، غير أن أهم ما خرج به "زنون" أن البحث العلمي "كلام معسول مكتوب في الدستور" وشعارات يتناقلها مسئولو الدولة للحديث عن التقدم، دون أفعال حقيقية على الأرض.

5

قبل أن يُكتَب دستور 2014، بدت ثورة يناير وكأنها المخرج من مشكلة تهميش البحث العلمي، أو هكذا ظن "زنون"، لكنه فوجئ بتراجع من نوع آخر "مثلًا كان عندنا وزارة مختصة للبحث العلمي في فترة وبعدين رجعناها مع التعليم تاني.. طب هو وزير التعليم هيركز في شئون الجامعات ولا يتفرغ للبحث العلمي؟".

 

عقب تطبيق الدستور الحالي ظلت بعض الجهات لا تقوم بدورها على أكمل وجه؛ ففي فبراير 2015، أنشأ رئيس الجمهورية، المجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي، ليكون أحد أدواره دعم "البحث العلمى وتطبيق التكنولوجيا الحديثة ودراسة وسائل النهوض بها واقتراح سبل تطوير أنشطتها ومستوى أدائها"، لكن منذ تأسيسه لم ير "زنون" أي تطوير في أوضاع البحث.

 

"بنغزل برجل حمار"

أجرى "زنون" بروتوكولات مع عدة جهات؛ وزارة التعاون الدولي، الإنتاج الحربي، جامعة القاهرة الصندوق الاجتماعي للتنمية. لا يلاقي رفض للتعاون "لكن بيبقى الرد إن مفيش ميزانية"، فإذا أراد أحد الباحثين تنفيذ فكرة عليه التكفل بالأموال اللازمة، ما يبدو صعبًا حتى على الجمعية نفسها، فرأس المال قليل، حسب قول مؤسسها "والدولة برضو مش راضية تديني فلوس أشغل انا بيها الأفكار بعد الموافقة وأديهم الربح"، من جهة أخرى ينظر "زنون" بأسى لمصانع الإنتاج الحربي، البالغ عددها 19 مصنعًا "وجزء منهم عطلان.. رغم إننا ممكن نستثمر فيهم إبداعات الشباب ويبقى وفرنا تمن المكان".

نبرة من المرارة تعتري صوت "زنون" حين التحدث عمّا يراه من بحوث وابتكارات واعدة، إذ تقوم اللجنة المختصة في "بنك الأفكار" بمناقشة ما يأتيها حسب التخصص، وتبدأ بتفنيد الأفكار والتواصل مع الجهات التي بإمكانها المساعدة على التنفيذ، غير أن ذلك لا يبدو كافيًا أبدًا، إذ يلاقي آل الجمعية سبلًا مسدودة "انا شفت بعيني باحثين بيبكوا والله من العجز".

 

 

من منطلق أن "الشاطرة تغزل برجل حمار" كان لـ"زنون" تجربة واعدة في جامعة القاهرة؛ إذ افتتح بنك أفكار للطلاب بالتعاون مع إدارة الجامعة، في عام 2012 "جاتلنا أفكار عظيمة ساعتها"، لكنها بقيت عصيّة على التنفيذ "كأننا معملناش حاجة".

6

يعايش "زنون" بين دفّات الرحلة نتائج إيجابية قليلة؛ فخلال أيام سينظم بالتعاون مع جامعة الزقازيق، أول معرض لعشر نماذج ابتكارات علمية لمواطنين بعضهم من أعضاء "بنك الأفكار"، وسيُفتح باب المساهمة أمام الراغبين في تبنّي تلك الأفكار من رجال الأعمال أو الشركات، كما بدأت بعض المصانع التابعة للإنتاج الحربي، في تنفيذ مشروعين من الجمعية، وفيما يحارب "زنون" ليحصد انتصارات بسيطة، يجد أن إلزام الدولة بتحسين الأوضاع لا يكفي، إذ كان يجب تجريم من يعرقل عمل الباحثين، كما أن وضع البحث العلمي لن يتم تعديله بالدستور ولكن "بالناس اللي عندها ضمير وعايزة تشتغل".

 

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج