إعلان

بـ"معبد صغير" وبئر ماء.. كيف سيطرت روما على طرق الذهب والأفارقة؟ (صور)

كتب : مصراوي

07:03 م 08/09/2025

تابعنا على

الوادي الجديد - محمد الباريسي:

على "درب الأربعين"، وبعد أسابيع من السير تحت شمس حارقة، لم تكن أسوار الطوب اللبن التي تلوح في الأفق مجرد محطة عابرة لجندي روماني أو تاجر قافلة، بل وعد بالحياة. وفي قلب هذا الحصن الصحراوي، لم يكن "البئر العظيم" يروي ظمأ العابرين فقط، بل يحكي قصة نفوذ روما الهادئ، بينما يقف معبد حجري صغير ليؤكد أن سلطة الإمبراطور تصل إلى أبعد نقطة في بحر الرمال، حيث يُقدّم الولاء للإله المحلي "آمون هيبس" باسم أنطونيوس بيوس.

هذه ليست مجرد أطلال، وإنما معبد قصر الزيان المنسي على بعد 26 كيلومترًا جنوبي واحة الخارجة، والذي يُعد وثيقة حية تكشف عبقرية "القوة الناعمة" للإمبراطورية الرومانية، وشيفرة تكشف كيف تحول هذا البناء الصغير إلى أداة سيطرة استراتيجية، تمزج بين الدين والماء والتجارة لتأمين أهم شرايين الاقتصاد القديم.

حين تحدثت الحجارة بلغة السلطة

للوهلة الأولى، يبدو المعبد متواضعًا في حجمه، لكن تصميمه يكشف عن فهم عميق لبيئة الصحراء ووظيفة المكان.

يقول الأثري حسان جابر، مفتش آثار الخارجة، إن المبنى الرئيسي من الحجر الرملي يضم صالة تقود مباشرة إلى قدس الأقداس، حيث وُضع تمثال الإله "آمون هيبس" في تجويف بالجدار. ويضيف أن محور المعبد، الذي يتجه من الجنوب إلى الشمال، لم يكن تفصيلًا عشوائيًا، بل اعتُمد في معابد صحراوية أخرى "لضبط علاقة الفضاء المقدس بمسار الشمس والرياح، وتقليل إجهاد المباني".

هذا التصميم يعكس أولويات البناة: استخدام الحجر الرملي الصلب لحماية قدس الأقداس والرموز الدينية، بينما استُخدم الطوب اللبن الأقل تكلفة والأسهل صيانة في المنشآت الخدمية المحيطة كالمساكن والمخازن، مما يضمن بقاء المقدس ومرونة الدنيوي.

رسائل الولاء في قدس الأقداس

يكمن السر الأكبر في معبد قصر الزيان في نقوشه الداخلية التي تحول جدرانه من مجرد بناء ديني إلى آخر سياسي لا يقل أهمية.

يؤكد الخبير الأثري بهجت أحمد إبراهيم، مدير آثار الوادي السابق، أن المشاهد المنقوشة توثق تقديم الإمبراطور الروماني أنطونيوس بيوس القرابين بنفسه للإله المحلي "آمون هيبس". ويشير إلى أن أعمال الترميم التي جرت في عهده سُجلت باللغة اليونانية على عتب باب الصالة، وتحدد تاريخ إنجازها بدقة: اليوم الثامن عشر من السنة الثالثة لحكمه، الموافق 18 أغسطس 141م.

هذه النقوش لم تكن مجرد "تبرك" من الإمبراطور، بل إعلان لسياسة ناعمة مفادها أن روما تحترم آلهة الواحات وتسعى لنيل الشرعية الروحية، وهو خطاب بصري ذكي موجه للسكان المحليين والجنود والتجار العابرين لتثبيت الولاء.

اقتصاد الماء.. من "بئر عظيم" المعبد لمركز حياة

لم يكن المعبد لينجح في مهمته لولا شريان الحياة الذي نبع من داخله. يقول محمد إبراهيم، مدير منطقة الآثار بالوادي الجديد، إن البقايا المحيطة بالقصر تكشف عن "بئر عُرفت لدى الأهالي باسم البئر العظيم". هذا البئر لم يوفر الماء لخدمة المعبد فقط، بل للحقول المجاورة أيضًا، مما رسخ المكان كمحطة زراعية حيوية.

ويضيف محسن عبد المنعم الصايغ، مدير هيئة تنشيط السياحة بالوادي الجديد، أن وجود البئر داخل السور حوّل الموقع إلى منظومة اقتصادية متكاملة. فالمخازن والساحات المحيطة به كانت تستقبل حركة القوافل، وتحمي محاصيل الواحة التي ازدهرت في العصر الروماني بفضل تأمين الطرق والتخطيط المائي.

وهكذا، أصبح المعبد محركًا لعمران محيط به، لا مجرد أثر صامت.

أطلال تروي استراتيجية روما

اليوم، وبعد قرون من الرياح والرمال، تقف أطلال قصر الزيان كشاهد أخير على هذه الاستراتيجية. فحتى اسمه الحالي، الذي يفسره الأثري طارق القلعي، مدير متحف آثار الوادي الجديد، بأنه تشكل بعد الفتح الإسلامي نسبةً إلى "قصر" محصن و"عين ماء"، يحفظ ذاكرة الماء والعمارة معًا.

وكما يلفت محسن الصايغ، فإن موقع الزيان لم يكن حالة معزولة، بل جزء من سياسة رومانية أوسع لنسج شبكة من الحصون والمحطات على طول طرق التجارة، مع ترك "قلوب مقدسة" صغيرة كالمعابد الحجرية لتعلن السيادة الروحية.

وبهذا المعنى، لم تكن أطلال الزيان مجرد حجارة، بل درسًا متقنًا في كيفية بناء النفوذ، حيث أدركت روما أن السيطرة الحقيقية على الصحراء لا تأتي بالسيوف وحدها، بل بتقديم الماء باسم الإله، وتأمين التجارة باسم الإمبراطور.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان