سر الحارات العشر والحصن الروماني.. حكاية "القصر" عاصمة الواحات القديمة
كتب : مصراوي
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
الوادي الجديد- محمد بدر الدين:
أعاد التاريخ وجهه في قلب صحراء مصر الغربية، حيث برزت قرية القصر الإسلامية شمال غرب واحة الداخلة بمحافظة الوادي الجديد كأحد أبرز الشواهد على العمارة الإسلامية في العصور الوسطى.
فقد شُيدت هذه المدينة خلال القرن الثاني عشر الميلادي إبان حكم الأيوبيين، على أنقاض حصن روماني قديم، لتكون عاصمة الواحات ومركزًا دفاعيًا ضد الغزاة من الجنوب والغرب.
ويقول الخبير الأثري منصور عثمان، المدير الأسبق للآثار الإسلامية والقبطية بالوادي الجديد، لمصراوي إن "القصر كانت بمثابة العاصمة الإدارية والعسكرية للواحات خلال تلك الفترة، وهو ما يفسر اختيار موقعها الاستراتيجي وبناء تحصيناتها القوية".
تقسيمات محكمة وحارات بأسماء الحرف والعائلات
تأخذك أزقة القصر الضيقة إلى عالم مختلف، حيث ما زالت تحتفظ بشبكة من الشوارع والأحياء التي لم تتغير منذ العصور الوسطى.
هذا ما أكده الخبير الأثري منصور، أنه جرى تقسيم القرية إلى عشر حارات، ولكل حارة بوابتان تغلقان ليلاً بعد صلاة المغرب، ولا يفتحهما سوى شيخ الحارة في الصباح الباكر، وتحمل الحارات أسماء العائلات أو الحرف التي اشتهر بها سكانها. فهناك حارة الحبانية التي ارتبطت بتجارة الحبوب، وحارة النجارين التي اشتهرت بصناعة الأبواب والأعتاب، وتوارثت عائلة "علام النجار" هذه الحرفة عبر الأجيال، كما تبرز حارة الحدادين، وحارة الفخارية التي حافظت على صناعة الفخار حتى يومنا هذا في منطقة الفاخورة.
ويكشف أحمد زكي، أحد أبناء القرية لمصراوي أن "الناس هنا ما زالوا يتعاملون مع الحارات كعالم اجتماعي خاص، لكل حارة تاريخها، وروحها، وحكاياتها التي تتناقلها الأجيال".
عمارة فريدة وبيوت تصمد أمام الزمن
تتميز القصر بعمارتها الإسلامية التي شُيدت بالطوب اللبن على قواعد حجرية، مما جعل منازلها صامدة لأكثر من سبعة قرون.
وقال محسن عبد المنعم الصايغ، مدير عام الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، إنه تبدو البيوت متلاصقة ومتعددة الطوابق، بحيث يصل بعضها إلى أربعة أدوار، وهو ما منحها ميزة فريدة في الحفاظ على درجات حرارة أقل من الخارج بنحو 13 درجة مئوية، لتكون نموذجًا مبكرًا للهندسة البيئية، ومن أبرز هذه المباني بيت القاضي عمر بن القاص سباعي العثماني الذي شُيد عام 1113 هـ، ويتكون من أربعة طوابق تحمل ملامح العمارة الفاطمية.
العتبات الخشبية.. صفحات من التاريخ
أضاف محسن، أن واجهات البيوت والمساجد في القصر تتزين بعتبات خشبية مزخرفة، بلغ عددها نحو 49 عتبة من خشب السنط، منقوش عليها آيات قرآنية وأدعية وأبيات شعرية، وتحمل هذه العتبات تواريخ تأسيس المباني وأسماء الصناع والحرفيين، وهو ما يجعلها وثائق معمارية وأثرية نادرة.
قال محسن، "أقدم نص تأسيسي مؤرخ على العتبات يرجع إلى عام 906 هـ، ويليه آخر يعود إلى عام 924 هـ، وهو ما يمنح القرية قيمة استثنائية في دراسة تاريخ العمارة الإسلامية بالصحراء الغربية".
القبائل المؤسسة للقرية
معالم القصر لا تقتصر على المباني، بل تمتد إلى تركيبتها السكانية التي بدأت منذ العام 50 هجرية، حين وفدت القبائل الإسلامية إلى الواحات.
أضاف خالد حسن شتوي، وكيل مكتب وزارة السياحة بالوادي الجديد، أنه من أبرز هذه القبائل عائلة خلف الله القادمة من أسيوط، وقبيلة الشهابية، وقبيلة أبو بكر التي استوطنت حارة الشهابية، إضافة إلى قبيلة الدينارية التي وفدت من بني هلال بالحجاز، وتخصصت كل قبيلة في مجال محدد: فالديناريون اهتموا بالتعليم والمواريث، والشهابية بالفقه والقرآن، وخلف الله بالزراعة وحفر العيون، فيما احترف آخرون الحدادة والنجارة والفخار.
الحياة اليومية بين الماضي والحاضر
أكد محمود عبد ربه، خبير التراث الواحاتي، أنه لا تزال القصر تعج بالحياة، فبين جدرانها القديمة يسكن أهالي القرية، يمارسون حياتهم اليومية وسط آثار تاريخية مدرجة على قائمة التراث المصري. ويعتمد السكان على زراعة النخيل وإنتاج التمور التي تشتهر بها الواحات، إلى جانب الحرف اليدوية التي توارثوها.
ويضيف عبد ربه: "القصر ليست مجرد أطلال، بل مكان حي يعيش فيه الناس ويحافظون على تراثهم كجزء من حياتهم اليومية".
معالم أثرية ومبانٍ شاهدة
يقول محمود، إن القرية تضم نحو 200 منزل، إلى جانب مواقع أثرية مثل الطاحونة ومبنى المحكمة والمساجد القديمة ذات المآذن الفريدة، وتعد مئذنة المسجد العتيق أبرز هذه المعالم، حيث لا تزال قائمة منذ بنائها في القرن الأول الهجري، بارتفاع يصل إلى 21 مترًا، ومبنية من الخشب على ثلاثة طوابق، يعتبر المؤرخون هذه المئذنة دليلاً على استقبال القصر للقبائل الإسلامية منذ بدايات دخولهم الواحات، وهو ما جعلها منارة روحية وعلمية لأهل المنطقة.
موقع استراتيجي وسط الصحراء
تقع القصر على مساحة 10 أفدنة، على بعد نحو 32 كيلومترًا من مدينة موط، وتحيط بها معالم طبيعية وأثرية؛ فمن الشمال يحدها تل مرتفع، ومن الشرق بئر عين الحامية الجاف، ومن الجنوب مسجد نصر الدين، ومن الغرب مقام الشيخ حمام وضريح الشيخ أبو بكر.
ويقول الدكتور عبد المنعم حنفي، أستاذ بجامعة بورسعيد ومن أبناء مركز الداخلة لمصراوي: "موقع القصر منحها حصانة طبيعية، وجعلها مركزًا دفاعيًا وتجاريًا، وهو ما يفسر توافد القبائل إليها عبر العصور".
يرجع اختيار اسم القرية إلى وجود بقايا قصر روماني قديم تحت مبانيها، وهو ما يفسر تخطيطها الدقيق إلى حارات وأحياء مغلقة بالبوابات. وعلى الرغم من بساطة عمارتها، فقد صمدت القصر أمام قسوة الزمن مثلها مثل بعض الآثار الفرعونية القريبة.
وعيد إدراج القرية خلال السنوات الماضية على قائمة الآثار المصرية، وخضعت لعمليات ترميم واسعة تمهيدًا لافتتاحها للسياحة، لتتحول إلى متحف مفتوح يحكي قصة الحياة في صحراء مصر منذ أكثر من سبعة قرون.