قرية القصر.. متحف حي في الواحات يروي حكايات الزمن (صور)
كتب : مصراوي
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
الوادي الجديد - محمد الباريسي:
خطت قرية القصر الإسلامية بمحافظة الوادي الجديد على مدار قرون، مسارًا فريدًا يروي حكاية الوطن في مواجهة الطبيعة والزمن والغزوات. فعلى أرضها تشكّلت ملامح متعددة للهوية المصرية، من الفراعنة إلى الرومان فالعصرين الأيوبي والعثماني، إلى أن أصبحت واحدة من أندر المتاحف المفتوحة في العالم.
- البداية الفرعونية.. "كنمت" وقطع الأرض للزراعة
تشير الوثائق التاريخية إلى أن واحة الداخلة، التي تقع في نطاقها قرية القصر، كانت تُعرف في العصر الفرعوني باسم "كنمت"، أي "اقطع - اقطع"، إشارة إلى شق الأرض وزراعتها. وكانت تلك الواحات تمثّل خط الدفاع الأول عن مصر من الغرب ضد الليبيين، ومن الجنوب تجاه النوبيين، ما يبرز أهميتها الاستراتيجية عبر التاريخ.
- أول المستقبلين للقبائل الإسلامية
عقب الفتح الإسلامي لمصر، وتحديدًا في العام 50 هجرية، برزت مدينة القصر كأول بلدة في الواحات الغربية تستقبل القبائل الإسلامية والعربية، وقد استوطنت بها قبائل عديدة ساهمت في تشكيل تركيبتها السكانية والاجتماعية والدينية. وأرجع الخبير الأثري منصور عثمان، مدير الآثار الإسلامية الأسبق بالوادي الجديد، أصل تسمية المدينة إلى وجود قصر لحاكم الواحات بها في العصر الأيوبي، حين كانت القصر عاصمةً للواحات.
- تخطيط هندسي مذهل.. وبيئة معمارية باردة في صيف الصحراء
استطاعت المدينة أن تحافظ على عبقها التاريخي بفضل تخطيطها المعماري الفريد، والذي أتاح لها التفوق على عوامل الطبيعة، حيث تنخفض درجات الحرارة داخل المدينة بنحو 12 إلى 13 درجة مئوية عن المناطق المحيطة. ويرجع ذلك، حسب ما أوضحه الدكتور محمود صالح، مفتش آثار بالوادي الجديد، إلى ضيق الشوارع والممرات، ونظام التهوية الهندسي الذي يسمح بتجدد الهواء وطرد الحرارة.
- آثار نادرة.. من المآذن إلى المدارس الشرعية
أكد الخبير الأثري منصور عثمان، مدير الآثار الإسلامية الأسبق بالوادي الجديد ، أنه من أبرز معالم القصر، مئذنة خشبية تعود إلى القرن الأول الهجري، وتتكون من ثلاثة طوابق بارتفاع 21 مترًا. ولا تزال هذه المئذنة محافظة على معالمها المعمارية ونقوشها القرآنية، كما تضم المدينة مدرسة العلوم الشرعية التي تعود للعصر المملوكي، وقد تحولت لاحقًا إلى محكمة وسجن قبل أن تُدرج ضمن المعالم الأثرية.
ورصدت عدسة "مصراوي" تفاصيل هذه المدرسة، التي تتكون من طابقين وإيوان وغرف مبنية من الطوب اللبن، بها زخارف مملوكية ونوافذ هندسية تُدخل الضوء وتمنع الشمس الحارقة.
- حارات بأسماء الحروف والعائلات
قال الخبير الأثري بهجت أبو صديرة، مدير آثار الوادي الجديد، أنه قد انقسمت المدينة إلى عشر حارات، لكل منها بوابتان تُغلقان ليلًا حماية من الغارات، ولا يُفتحان صباحًا إلا بإذن شيخ الحارة، وارتبطت أسماء الحارات بالحرف أو العائلات التي سكنتها مثل حارة النجارين، الفخارية، الحبانية، والحدادين. وتدل منازلها المتلاصقة ذات الأسطح المفتوحة على بعضها على روح الأسرة الواحدة.
- القبائل المؤسسة.. من بني هلال إلى الأشراف
استقبلت القصر العديد من القبائل والعائلات، من بينها:
1- قبيلة خلف الله: وفدت من أسيوط عام 50 هجرية.
2- قبيلة الشهابية: استقرت في الجزء الشرقي من المدينة.
3- قبيلة أبو بكر: استوطنت حارة الشهابية.
4- قبيلة الدينارية: من بني هلال بالحجاز، تميزت باهتمامها بالتعليم والمواريث.
5- الشرفاء: ينحدرون من نسل الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، واستوطنوا الجنوب.
- كنز تاريخي موثق في المراجع الإسلامية
وفقًا للدكتور محمود صالح، ورد ذكر القصر في عدة مصادر تاريخية مثل:
•"كتاب الأرض" لابن القصبي (367 هـ)، الذي وصفها بـ"قصر آل عبدون" حكام الواحات.
•"المعرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب" للبكري، الذي وصفها بأنها "حصن في الداخلة به عين ماء تتشعب منه الأنهار".
•"مباهج الفكر" للوطواط، الذي وصف القصر بأنها عاصمة الحيز القبلي للداخلة، مقابل "الهنداو" عاصمة الحيز البحري.
- من الرومان إلى الأيوبيين.. ثم العثمانيين
قالت الدكتور سهام بحر، مدير الآثار الإسلامية الحالي بالوادي الجديد، إنه قد عثر علماء الآثار على بقايا قصر روماني أسفل المدينة، استخدمت أحجاره في بناء واجهات المنازل. ويعود التاريخ المعماري للمدينة إلى القرن العاشر الهجري، وقد ازدهر العمران بها في العصر العثماني، ما جعلها نموذجًا حيًا للعمارة الإسلامية المندمجة مع متطلبات البيئة الصحراوية.
- مدينة لا تزال تنبض بالحياة
وأضافت أنه ما يميز القصر عن غيرها من المدن الأثرية أنها لا تزال عامرة بالسكان الذين يحافظون على طابعها الأثري. وتضم المدينة نحو 200 منزل من الطوب اللبن، معظمها لا يتجاوز ثلاثة طوابق، وتتنوع استخدامات الطوابق بين المعيشة والنوم وتخزين الثمار، ويعيش السكان على زراعة النخيل، الذي يمثل ركيزة الاقتصاد المحلي. وتقوم عليه صناعات عديدة مثل السعف والسجاد والكليم، ويُعد تمر الوادي الجديد من أجود أنواع التمور المصدّرة.
- ترميم شامل برعاية دولية
في عام 2015، أُطلق مشروع ضخم بتمويل ياباني لإعادة ترميم المباني المهددة بالانهيار، وأشرفت وزارة الآثار على المشروع الذي انتهى بنجاح، ما أعاد الحياة إلى المدينة وفتحها أمام السياحة الداخلية والدولية.
- مقصد للسياحة العلاجية والتصوير السينمائي
وأضافت سهام، أنه إلى جانب آثارها، تشتهر القصر بوجود بئر الكبريت بمنطقة "بئر الجبل"، الذي يعد مركزًا للاستشفاء الطبيعي، وقد جرى تصوير فيلم "عرق البلح" للفنانة شريهان في هذه المنطقة عام 1995، وهو ما منح المدينة شهرة إضافية في الأوساط السينمائية.
- الحرف اليدوية.. تراث يعانق الحداثة
تحتضن المدينة معرضًا للمنتجات البيئية يحمل اسم "أم جنا سنوسي"، يضم مشغولات يدوية من الخوص والسجاد والجلباب الواحاتي، ويجذب المعرض السياح والباحثين المهتمين بالتراث المصري.
- عمارة تعكس روح الفقه الإسلامي
قال الخبير في تراث الوادي الجديد، محمود عبد ربه، إنه تُعد منازل القصر نموذجًا لما أطلق عليه "فقه العمارة الإسلامية"، أي قواعد العمران التي صاغها الفقهاء بما يتناسب مع القيم الإسلامية، وتظهر هذه المبادئ في تخطيط المنازل والشوارع، حيث تُراعي الخصوصية، التهوية، وتقسيم الوظائف المعمارية وفقًا لمقاصد الشريعة.
- نقوش الأبواب.. أناشيد ترحب بالضيوف
من يمر في حارات القصر يلاحظ عبارات منقوشة أعلى أبواب البيوت، مثل:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذه الدار أضاءت بهجة وتجلت فرحًا للناظرين"،
"كتب السعد على أبوابها، ادخلوها بسلام آمنين"،
"عز يدوم وسعادة لا تنقضي، وبلوغ ما تهوى النفوس وترتضي".
- في قلب التاريخ.. حية لا تموت
ورغم مرور القرون، لا تزال القصر تحتفظ بعنفوانها، وكأنها تسير بعزم في خطى الزمن، إنها ليست مجرد بلدة، بل رواية مفتوحة كتبتها الشعوب، وشهدت على تحولات التاريخ، وها هي اليوم تفتح ذراعيها لكل من أراد أن يسمع صوت التاريخ بأحجاره وشوارعه وأبوابه الخشبية.