إعلان

وادي البطيخ.. ظاهرة جيولوجية نادرة تحوّل الصحراء إلى متحف طبيعي مفتوح -صور

كتب : محمد الباريسي

12:59 م 04/12/2025

تابعنا على

في عمق صحراء الوادي الجديد، وعلى مسافة تقارب 95 كيلومترًا على طريق أسيوط – الخارجة، سجّل وادي يعرف بين السكان باسم "وادي البطيخ" حضوره كواحدة من أغرب الظواهر الجيولوجية في مصر؛ صخور ضخمة مستديرة تشبه ثمار البطيخ، ألوانها بين البني والوردي والقرمزي، تتناثر في مساحات واسعة من الصحراء، وتفتح بابًا لأسئلة علمية واقتصادية وسياحية لا تنتهي.

هناك، حيث الصمت الصحراوي والسماء المفتوحة، يبدو المشهد أقرب إلى متحف طبيعي مفتوح ينتظر أن يوضع على خريطة السياحة المصرية بشكل أوسع.

كيف بدأت حكاية وادي الصخور الكروية؟

تعود قصة وادي البطيخ إلى تحولات جيولوجية عميقة عاشتها صحراء الوادي الجديد عبر ملايين السنين؛ فالتكوينات الصخرية هناك ليست وليدة لحظة، بل نتاج طويل لعوامل تعرية ورياح وأمطار تركت بصمتها على طبقات الحجر الرملي والصخور الصلبة.

يشرح الدكتور جبيلي عبد المقصود، أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم بجامعة الوادي الجديد، لمصراوي، أن الصخور المستديرة في هذه المنطقة يرجَّح أن تكونت من طبقات رسوبية خضعت لعوامل تعرية معقدة؛ فبعض مكوّنات الصخرة الواحدة يذوب تدريجيًا بفعل المياه والعوامل الكيميائية، بينما تقاوم مكوّنات أخرى هذه العملية، فتتبقى على شكل كتل صلبة مستديرة، تأخذ بمرور الزمن هيئة قريبة من ثمرة البطيخ في الشكل والحجم، وأحيانًا في اللون أيضًا.

تابع جبيلي : هذه العملية البطيئة، التي جرى خلالها نحت الصخور وإعادة تشكيلها طبقة بعد أخرى، منحت الوادي شخصيته الحالية، وحولته إلى ظاهرة جيولوجية نادرة يصفها المتخصصون بأنها "معمل مفتوح في الهواء الطلق" يتيح قراءة تاريخ طويل من التحولات البيئية والمناخية في الصحراء الغربية.

ألوان غامضة وتكوينات صلبة

الدكتور نبيل حنفي، أستاذ الجغرافيا بجامعة بورسعيد من أبناء الوادي الجديد، قال لـ"مصراوي" إن صخور وديان البطيخ تتناثر في بقع محددة من الصحراء، ولا تظهر بشكل متواصل، وهو ما يضيف إلى غموضها العلمي. وأوضح أن هذه الصخور تتنوع ألوانها بين البني والوردي والقرمزي، وأحيانًا تميل إلى ألوان داكنة تشبه لون بعض الأحجار شبه الكريمة، بينما تختلف مادتها عن الصخور المحيطة، إذ تقترب في صلابتها من صخور الصوان، ما يجعل كسرها أو تفتيتها أمرًا بالغ الصعوبة.

ويضيف حنفي، أن الدراسات الجيولوجية التي تناولت هذه الظاهرة ما زالت عاجزة عن تقديم تفسير نهائي لطريقة تكوّن هذه الصخور بشكلها الحالي، رغم الاتفاق على دور التجوية الكيميائية والأمطار في إعادة توزيع العناصر داخلها، هذا الغموض العلمي فتح الباب أمام روايات شعبية وأساطير محلية؛ فبعض أهالي الصحراء يروون قصصًا عن "بطيخ متحجر منذ آلاف السنين"، تحوّل إلى صخور مع مرور الزمن، وهي روايات تمنح الوادي بُعدًا قصصيًا وجماليًا يزيد من جاذبيته لدى الزوار.

كنز بصري في قلب الصحراء

يتوزع ما يعرف بوادي البطيخ في أكثر من موقع داخل محافظة الوادي الجديد؛ أبرزها منطقة الكيلو 95 على طريق الخارجة – أسيوط، ومنطقة سهل الزيات على طريق الخارجة – الداخلة، إضافة إلى مناطق شمال قرية تنيدة بمركز بلاط، حيث تظهر التكوينات الصخرية في مجموعات متفاوتة الأحجام تصل أوزان بعضها إلى مئات الكيلوغرامات.

محمود عبد ربه، أبناء الخارجة، الراصد لتراث الواحات، أوضح لـ"مصراوي" أن ما يطلق عليه السكان "وادي البطيخ" ليس واديًا واحدًا بمعناه الضيق، وإنما مجموعة من الوديان والنطاقات الصحراوية المتفرقة التي تشترك في طبيعة تكوينها الصخري الغريب.

ويشير إلى أن هذه التكوينات لا تقتصر على الوادي الجديد فقط، بل تسجّل حضورًا في مناطق أخرى من الصحراء المصرية، ما يعزز فرضية أنها ظاهرة جيولوجية أوسع نطاقًا من مجرد وادٍ منفرد، على مستوى المشهد البصري، تبدو الصخور الكروية المنتشرة وسط الرمال أشبه بمنحوتات طبيعية وضعت بعناية على امتداد الهضاب، ما يجعل المكان مقصدًا لعشّاق التصوير والرحلات البرية، خاصة مع تباين الأحجام والألوان وتفاوت درجات اندماج الصخور بالرمال من منطقة لأخرى.

متعة الرحلات

مع تزايد الاهتمام بالسياحة البيئية وسياحة السفاري في مصر خلال السنوات الأخيرة، بدأت مناطق وديان البطيخ تحظى بحضور أكبر في برامج الرحلات الخاصة بعشّاق الصحراء والمغامرة، وإن كان ذلك ما زال محدودًا مقارنة بما تمتلكه من مقومات.

يقول محسن عبد المنعم يونس، مدير هيئة تنشيط السياحة بالوادي الجديد، إن الزائر يجد في وديان البطيخ تجربة مختلفة؛ فهو أمام تكوينات نادرة لا تتكرر بسهولة، وبيئة صحراوية هادئة بعيدة عن الضوضاء، ومساحات واسعة تتيح مسارات متعددة للرحلات والتخييم والتصوير الليلي. ويضيف أن الكثير من الزوار يحرصون على التقاط صور وهم يقارنون بين شكل الصخور وثمار البطيخ، في مشهد يمزج بين الدعابة ودهشة الطبيعة.

ثروات تحت الرمال

لا يقف حديث الخبراء عن وديان البطيخ عند حدود جمال المشهد الجيولوجي، بل يمتد إلى إمكاناتها الاقتصادية.

محسن، يشير إلى أن هذه المناطق تحتضن ثروات معدنية يمكن أن تشكّل ركيزة لمشروعات تعدينية مستقبلية، من بينها الجبس والرمال البيضاء التي تدخل في صناعات الزجاج وغيرها من الصناعات المرتبطة بمواد البناء، هذه الموارد تتكامل مع ما هو معروف عن الوادي الجديد من ثروات معدنية أخرى مثل الفوسفات والطفلة الزيتية في هضبة أبو طرطور، ما يعزّز الصورة العامة للمحافظة كمخزون استراتيجي للثروات الطبيعية في مصر.

إلى جانب ذلك، يلفت محسن إلى احتمال وجود خزانات مياه جوفية في بعض مناطق الوديان، يمكن استثمارها في إقامة مشروعات زراعية محدودة المساحة تواكب طبيعة البيئة الصحراوية، مما يخلق توازنًا بين استغلال الموارد وحماية النظام البيئي.

صخور شبيهة في الفيوم وصحارى أخرى

ما يميز ظاهرة صخور "البطيخ" في مصر أنها لا تنحصر في موقع واحد؛ فإلى جانب وديان الوادي الجديد، تُسجّل منطقة الفيوم وجود وادٍ يحمل الاسم نفسه تقريبًا، يشتهر هو الآخر بصخوره الكروية بألوان وأحجام متعددة، تكونت عبر ملايين السنين من التحولات الجيولوجية، ما يجعل هذه التكوينات ضمن أغرب الظواهر الطبيعية في البلاد، وفق تقارير صحفية وسياحية حديثة.

قال محسن، إن هذا التكرار في أكثر من محافظة يلمّح إلى أن الظاهرة ترتبط بنمط معيّن من الصخور الرسوبية والظروف المناخية التي مرّت بها هذه المناطق عبر فترات زمنية طويلة، ويحوّل "البطيخ الصخري" من مجرد مشهد محلي إلى عنصر من عناصر التنوع الجيولوجي على مستوى الخريطة المصرية، يمكن توظيفه في حملات ترويجية تستهدف إظهار وجه جديد للصحراء بعيدًا عن الصورة النمطية للكثبان الرملية فقط.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان