إعلان

سبيل داخل محل أحذية.. حكاية بئر "المهدلي" الذي أنقذ السويس وقت الحصار (صور)

كتب : حسام الدين أحمد

11:02 ص 15/12/2025

تابعنا على

السويس - حسام الدين أحمد:

لعدة قرون، كانت منطقة الغريب في السويس مركزًا للحكم ومحطة وصول رئيسية لقوافل الحجاج المسلمين، سواء القادمين من شمال الدلتا والوجه البحري، أو العرب الوافدين من شمال أفريقيا، الذين لا يزال أثرهم حاضرًا في المدينة حتى اليوم.

- زيارة الغريب والشرب من البئر

لذلك، ظلت المنطقة - التي كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر تمثل نهاية العمران في السويس - ذات مكانة روحانية خاصة في وجدان أبناء المدينة والوافدين إليها، حيث اعتاد الحجاج والمعتمرون الصلاة في مسجد الغريب وقراءة الفاتحة، إلى جانب الشرب من بئر «المهدلي».

- بئر داخل محل أحذية

وعلى بُعد عشرات الأمتار من مسجد الغريب، وداخل محل صغير لصناعة الأحذية، يقع هذا البئر التاريخي، الذي يعرف أهل السويس قصته جيدًا، خاصة دوره في إنقاذ المدينة خلال حصار العدو في 24 أكتوبر 1973. غير أن كثيرين يجهلون قصة حفر البئر، وكيف آل موقعه إلى داخل محل لإصلاح الأحذية، والعقد الملزم بحمايته وترك مياهه سبيلًا، فضلًا عن تأثير التطور العمراني على منسوب مياهه.

- حاج مغربي

يحكي صبحي يوسف، صاحب محل الأحذية الذي يحتضن البئر في زاويته اليمنى، أنه قبل قرنين ونصف القرن، قدم رجل صالح مع قافلة حجاج من المغرب العربي، ونزل في منطقة الغريب، التي كانت تمثل آخر محطة ترانزيت للحجاج قبل عبور البحر.

- كرم السوايسة

ويضيف: «أُعجب الشيخ المهدلي بكرم أهل السويس وحفاوة استقبالهم للحجاج، فقرر حفر بئر مياه». ويوضح أنه رغم قرب موقع البئر من البحر والكورنيش القديم بمسافة تقل عن كيلومتر واحد، فإن الحفر أخرج ماءً عذبًا.

- مدينة القلزم

وكان الحجاج المسلمون من شمال أفريقيا ودول المغرب العربي يقصدون السويس، أو كما عُرفت آنذاك بـ«مدينة القلزم»، الواقعة على رأس الخليج والبحر الذي حمل الاسم نفسه. وكانت القلزم عتبة الحجاج إلى مكة والمدينة، حيث يبحرون في مراكب صغيرة من الميناء القديم عند الخور، يعبرون الخليج إلى سيناء، ثم يستكملون رحلاتهم برًا عبر بلاد الشام وصولًا إلى أراضي المملكة العربية السعودية حاليًا.

ويقول صبحي يوسف، الذي ورث محل الأحذية عن والده، إن الشيخ المهدلي قرر حفر البئر على نفقته الخاصة لسقاية الحجاج، وذلك عقب عودته من رحلة الحج، بعدما مكث في منطقة الغريب عدة أسابيع، تاجر خلالها ببضاعته التي عاد بها من الحجاز وبلاد الشام.

- سبيل ووصية

ويؤكد صبحي أن «سيدي المهدلي حفر البئر وأوصى بأن يكون سبيلًا لمن بعده، لا يُغلق ولا يُمنع أحد من مائه»، وهي وصية التزم بها أهالي الغريب، ودُوّنت لاحقًا في عقد إيجار المحل.

ويُخرج صاحب المحل عقد إيجار قديمًا، محررًا باللغتين العربية والفرنسية، بتاريخ 21 نوفمبر 1950، بين المالك الأول للمنزل والمحل، وبين والده محروس يوسف، المستأجر. ويتضمن العقد بندًا مكتوبًا بخط اليد ينص على:

«بالدكان المذكور بئر سيدي المهدلي رضي الله عنه، وقد تعهد المستأجر بعدم التعرض لهذا البئر أو منع أحد من أخذ مياه منه بغرض التبرك والسقاية، وعليه أن يحافظ على هذا البئر».

- حفظ العهد

وعند حفر البئر، كانت المنطقة مساحة مفتوحة، ثم شُيّدت لاحقًا عدة منازل على الطراز البغدادلي، هُدمت مع مرور الزمن وحلّت محلها مبانٍ أخرى، بينما ظل البئر محفوظًا في مكانه من بناء إلى آخر لأكثر من 250 عامًا، التزامًا بالعهد الذي حافظ عليه كل من سكن المنزل أو استأجر المحل، بدءًا من محروس يوسف، الذي استأجره قبل 75 عامًا.

- حصار السويس

عقب نكسة يونيو 1967، صدر قرار بتهجير أهالي مدن القناة، فغادرت الأسر بيوتها وتجارتها. وكان من بين من رحل محروس يوسف، الذي ترك محل إصلاح الأحذية وسافر، بينما بقي في المدينة رجال المقاومة والفدائيون وتشكيلات من الجيش والشرطة المدنية، إلى جانب بعض الحرفيين، لضمان استمرار سبل الحياة.

ومع عبور القوات الإسرائيلية من «الثغرة» واتجاهها نحو السويس، استهدفت محطة مياه الشرب بمنطقة الهويس، المسؤولة عن تغذية المدينة، وقطعت خطوط الإمداد في محاولة لكسر صمود المقاومة.

- 4 لترات في الأسبوع

وخلال أيام الحصار، كان رجال المقاومة يستهلكون كميات شحيحة من المياه، لا تتجاوز 4 لترات أسبوعيًا في «جركن» واحد، تحت إشراف الشيخ حافظ سلامة، قائد المقاومة الشعبية، الذي تولى تنظيم توزيع المياه والطعام بما يكفي الجميع رغم الندرة.

- كيس سكر

ويروي وريث مستأجر المحل أن الشيخ حافظ سلامة تذكر أمر البئر، وأبلغ المحافظ اللواء بدوي الخولي، الذي أصدر أمرًا بكسر باب الدكان وفتح البئر لتوفير مياه الشرب.

وتحكي الرواية الشعبية أن الشيخ حافظ سلامة أحضر كيس سكر وأفرغه في البئر، ففاضت المياه، وتمكن رجال المقاومة والجنود من ملء أوعيتهم وجراكنهم، وشرب منها أهل المدينة كافة.

وظل البئر المصدر الرئيسي للمياه في السويس طوال فترة الحصار، التي استمرت 100 يوم، حتى رُفع الحصار وبدأت سيارات المياه القادمة من القاهرة في الوصول محملة بالمياه والمواد التموينية.

ومع انتهاء الحرب وعودة المهجرين مطلع عام 1975، استمر بعض الأهالي في عادة وضع السكر بالبئر، فيما ظل البئر كريمًا، يعطي مياهه للجميع دون مقابل.

- جفاف البئر

ويصف صاحب الدكان البئر قائلًا إن عمقه يبلغ 5 أمتار، وكان منسوب المياه يصل إلى 3 أمتار، وظل كذلك حتى قبل سبع سنوات، حين انخفض منسوب المياه بشكل ملحوظ، دون أن يجف تمامًا، ليصل إلى أقل من نصف متر.

ويرجع أهالي المنطقة السبب إلى التطوير العمراني، حيث أُزيلت البيوت القديمة وأُقيمت أبراج سكنية تتطلب حفر أساسات عميقة. كما هُدم منزل قديم خلف البئر لإقامة برج سكني، ومع أعمال الحفر التي تجاوزت عمق البئر، بدأ منسوب المياه في التراجع تدريجيًا، حتى بات البئر اليوم على حافة الجفاف.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان