إعلان

القهوة

خليل العوامي

القهوة

خليل العوامي
08:45 م الإثنين 06 سبتمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

" القهوة " لا أقصد بها مشروب القهوة الساحر بأنواعه المختلفة، وإنما أقصد المعنى الدارج لكلمة " مقهى " ذلك الساحر الآخر والمختلف في حياة قطاع كبير من المصريين قديما وحديثا، والمكان المفضل لكثير منهم رغم تبدل الأوقات والظروف.

وإن لم يكن هناك تاريخ دقيق لنشأة " القهاوي" في مصر إلا أن المتفق عليه ولو نسبيا أنها كانت في القرن التاسع الميلادي، وفق ما ذكر موقع محافظة القاهرة، وإن كان البعض يعود بالتاريخ للوراء أكثر.

وقد رصد علي باشا مبارك " 1923-1893 " في موسوعته " الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة " قرابة 1027 قهوة في القاهرة وحدها عام 1880، ثم انتشرت " القهاوي " بصورة أكبر خاصة بين عشرينيات وأربعينيات القرن العشرين، مع المد الثوري الواضح، وتبلور علاقة الناس بها، ثم واصلت الزيادة والانتشار في كافة أحياء العاصمة، ومنها إلى عواصم المحافظات الأخرى حتى باتت ظاهرة في البلاد، بأحيائها الراقي منها والشعبي، بل وفي القرى كلها تقريبا حتى إنك قد لا ترى عاصمة في العالم بها عدد " القهاوي " الموجودة في القاهرة.

وشكلت " القهاوي "، ولا تزال جزءا من التاريخ المصري سياسيا وثقافيا واجتماعيا، بل كانت طرفا أصيلا فيه، وشاهدا على تغير وتطور المصريين وحياتهم، وما عاشوه من تقلبات الدهر، ومكايدات السياسة، وطموح وآمال السياسيين وأيضا نذالة بعضهم وخسته.

ومثلما كانت " القهاوي " حاضرة في انفتاح المجتمع المصري في فتراته الذهبية وحاضنة له، سجلت أيضا تراجعه فكريا وانغلاقه دينيا واجتماعيا. وأن كان الكاتب الكبير صنع الله ابراهيم رصد حقبة مهمة من تاريخ مصر المعاصر عبر شخصية " ذات " في روايته " بنت اسمها ذات" فإن أي باحث متخصص يمكنه بسهولة رصد أحداث قرنين من عمر مصر تقريبا من خلال تتبع مقاهيها، وما شهدته من أحداث،

ففي " القهاوي " تشكلت حكومات، وجماعات سياسية، وكتبت منشورات وبيانات سياسية، وفيها التقى الوطنيون المخلصون للبلاد، ومنها خرجت المظاهرات والمسيرات المطالبة بالحرية والاستقلال، وعلى مقاعدها ومناضدها استقر الطلاب ورموز الحركة الوطنية المتعبة أجسادهم من ملاحقات الإنجليز والبوليس السياسي حتى منتصف القرن العشرين، وبعدها، وفيها أيضا تلصص المجرمون على ضحاياهم، وخونة الأوطان على ثوارها.

على " القهاوي " التقى الأدباء والفنانون والمبدعون والمشايخ والحرافيش والعمال والموظفون، فهي المكان الوحيد القادر على استيعاب الجميع بلا تفرقة، وبدون شروط أو قيود. الأهداف والهموم والتوجهات متنوعة، والمكان واحد " قهوة " تستوعب وتحتضن ولا تفش الأسرار.

وبعيدا عن النخبة، فقطاعات متنوعة من المصريين يرتبطون ارتباطا واضحا في حياتهم بالقهاوي، فهي جزء من جدول حياتهم اليومي أو الأسبوعي على الأقل، لا فارق هنا بين المهنة أو المستوى الاجتماعي، وفي حين تمثل لبعضهم مكانا للتسلية أو لقاء الأصحاب، واحيانا مكافأة من الشخص لنفسه بعد يوم عمل طويل، تعتبر عند الحرفيين المكان المفضل للقاء الزبائن والاتفاق على العمل.

ومثلما كان هناك " قهاوي " شهيرة لكبار السياسيين ورموز الحركة الوطنية على مر تاريخها، وأخرى للفنانين والآلاتية، كانت هناك " قهاوي " لمريدي الطرق الوصفية والأزهريين، و الصعاليك والحرفيين والتجار، فنجد مثلا" اللواء و البوستة ونوبار والسنترال والأنجلو وريش و الجريون " كما نجد أيضا مقاهي شعبية مثل " التجارة وعلي نيابة وعرابي والبستان والحرية والندوة الثقافية والقزاز " ، وإن احتلت بعضها مكانة الأخرى، أو خفت بريق واحدة لصالح جارتها، مع مرور الوقت وتغير ولاءات مريديها.

أضف إلى ذلك مئات أو آلاف " القهاوي " التي لا تتمتع بذات الشهرة على مستوى العاصمة والأحداث، بينما هي نجوم ساطعة لدى زوراها في الأحياء الموجودة بها .

وقد اشتهرت " قهاوي " بتقديم مشروبات بعينها، بما في ذلك المشروبات الروحية، أو نوع معين من المعسل، كما كان هناك " قهاوي " مخصصة لألعاب مختلفة مثل الكوتشينة والدومنو والشطرنج والطاولة.

غير أن " القهاوي " طالها ما طال مصر وشعبها من تغيرات عميقة، حيث ظهرت " الكافيهات " الفاخرة داخل المولات التجارية والفنادق، وعرفت زبائن مختلفون من الشباب والسيدات .. دون أن يؤثر هذا على طبيعة الفكرة .. حيث بقت " القهوة " أحد المكونات الأساسية في مصر.

إعلان