إعلان

خواطر حول "كورونا"

د. عمار علي حسن

خواطر حول "كورونا"

د. عمار علي حسن
01:56 ص الخميس 30 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

( 1 )

الذين يستغلون الوباء في مدح سلطة بأي شكل وبطريقة لا علاقة لها بالواقع، وأولئك الذين يستغلونه في تصفية حسابات معها بإطلاق الأكاذيب والشائعات، كلاهما يرتكبان عملا غير أخلاقي على حساب أرواح الناس، وهي أثمن ما يجب الحفاظ عليه، والانحياز له، والعمل لأجله.

( 2 )

علمني عملي بالصحافة في أول الطريق أن الخبر الطبي والعلمي لا استسهال فيه. فمرة فبرك صحفي خبرا عن كشف علاج للسرطان قامت لأجله الدنيا. ومرة كتب آخر خبرا طبيا، وكان صحيحا، فانهالت المكالمات وزحف ناس إلي الجريدة بحثا عن علاج أتعجب من دعاة وإعلاميين يفتون عن سبب كورونا وعلاجه بلا خجل.

( 3 )

على مقربة من بيتي عربة فول كنت أحيانا أذهب لأفطر على طاولة بسيطة إلى جانبها، وغالبا أشتري لنأكل بالبيت. طالما فعلت هذا في محبة عابرة الليلة تضاعفت المحبة كثيرا عندما نظرت إليها من شرفتي فوجدتها الشيء الوحيد المبهج في الشارع المهجور، فهبطت سريعا لأشتري، ووقفت طويلا لا أريد العودة.

( 4 )

في أحد المسلسلات تنطلق سخرية ظاهرة وضمنية من أستاذة جامعية متخصصة في إحدى الحشرات. لا أعلم لماذا الإصرار في أغلب الدراما على هذا النهج المخزي؟

ألم يعرف هؤلاء أن مصير البشرية معلق الآن في عقل عالم متخصص في شيء أقل كثيرا من حشرة يصل إلى لقاح ضد كورونا؟

( 5 )

كورونا ليس "الوباء" الأول في تاريخ الإنسانية الذي يجعل الناس مجبرين على تغيير الكثير مما يفعلونه بشكل آلي، والنظر إلى كثير منه باعتباره جزءا أصيلا من هويتهم، وطرق التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم، مثل التزاور الأسري، وارتياد أماكن التجمعات البشرية في الأسواق ودور السينما والأندية وبعض المصالح الحكومية التي تقدم خدمات يحتاج إليها أغلبية المواطنين، فضلا عن الأماكن التي لا غني عن الذهاب إليها لكل فرد مثل المدارس والجامعات وأماكن العمل، أيا كان نوعه.

فقد قرأنا، على سبيل المثال لا الحصر، في الآداب الأوروبية عما وقع للناس أيام تفشي الطاعون في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، من ذعر واضطرار إلى تغيير نمط العيش. وكتب ألبير كامو عام 1947 روايته الشهيرة "الطاعون" التي حاز عنها جائزة نوبل، وهي تحكي عن عاملين في المجال الصحي بمدينة وهران الجزائرية يتكاتفان معا لمقاومة هذا المرض الخطير، ومن خلالهما نرى كيف أثر الوباء على الطبقة الشعبية.

وأطلعنا طه حسين في سيرته البديعة "الأيام" عن الأثر الاجتماعي لمرضى الكوليرا الذي صار وباء مهلكا في مصر أوائل القرن العشرين. وكرر خيري شلبي في روايته "الوتد" الأمر نفسه، وكيف كانت بطلته الجدة فاطمة تعلبة حكيمة، حين سدت منافذ بيتها، وحبست أولادها وأحفادها فيه، حتى وضع الوباء أوزاره. وحدثنا نجيب محفوظ في ملحمة الحرافيش عن شيء من هذا، حيث تفشي وباء أهلك الناس جميعا، وترك الأحياء خرابا، ولم ينج منه سوى بطله عاشور الناجي الذي ذهب بأهله إلى الخلاء، ثم عاد ليجد أمامه بيوت الأعيان بلا أصحاب فاختار أجملها واتخذه بيتا وصار سيد المكان وكبير الناس بعد أنه جاء سكان جدد لا يعرفون تاريخه. وكتب أمير تاج السر رواية عن وباء "الإيبولا"، الذي ضرب مناطق في جمهورية الكونغو كينشاسا، وامتد منها إلى جنوب السودان.

وأدى مرض "الإيدز" إلى تغير في أنماط العلاقات الجنسية، حيث زاد التحسب والحذر، ولم يعد الأمر على حاله القديمة، وأثر هذا قطعا على هجرات السكان من أماكن انتشار الوباء إلى أخرى، بغية السياحة أو العمل. وعلى التوازي انطلقت إمكانات الوقاية لتنتج أشياء جديدة في عالم الطب لم تكن معرفة فيما سبق، وقد يكون هذا قد ترك أثرا، ولو مؤقتا، على "تجارة الرقيق الأبيض".

اليوم ينطق "كورونا" ليقول لبعض المجتمعات، وعلى رأسها العربية، إنها في حاجة إلى تغيير أساليب المصافحة، وبعض أنماط العيش، إذ لم يعد من المستساغ أن يقبل الرجال أمثالهم، والنساء أمثالهن، حين يلتقي الجميع، كما جرت العادة، كأن يلقي أحدهم أربع قبلات بالتتابع على خد صديقه أو زميله حين يقابله، مثل ما هو في مصر، أو ثلاث مع إطالة الأخيرة، مثل ما هو متبع في بلاد الشام، تعبيرا عن الاحتفاء. ولا يمكن بالقطع أن يستمر الخليجيون في مصافحة الأنوف، التي ورثوها عن القبائل العربية وهي ترمز إلى العزة، باعتبار الأنف مكانها وموطن كبرياء الفرد. وربما تكون المصافحة بالأيدي هي الأقل ضررا، لكنها ليست مأمونة، بعد أن أظهرت الفحوص أن الفيروس ينتقل عبر مسامي الجلد. وقد تكون طريقة السودانيين في المصافحة هي الأفضل، حيث يتبادل المتصافحان وضع اليد على الكتف، هذا في اليمنى وذلك في اليسرى، ومع هذا فإن الاقتراب مثل هذه المسافة لا يمنع التقاط العدوى.

وهناك تأثيرات اجتماعية أعمق من هذا بكثير، حيث سيضطر الناس في أماكن تفشي الوباء إلى التكالب على تخزين السلع، وسيظهر تجار الأزمات، الذين يشبهون أثرياء الحروب، وستخلو الأماكن العامة من مرتاديها، وسينخفض التزاور بين الأقارب والأصدقاء إلى أدنى حد، وقد يقتصر على التواصل عبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، وستكون السلطات على محك اختبار من قبل الشعوب، حيث ستقاس كفاءتها في إدارة الأزمة، ومدى اهتمامها بالناس، وما إذا كانت تمارس تعتيما أم شفافية.

إعلان