إعلان

 المدعي الذي لا يأتي بالبينة..!

سليمان جودة

المدعي الذي لا يأتي بالبينة..!

سليمان جودة
07:01 م الأحد 19 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


الساعات القليلة الماضية كانت مغرية بالمتابعة على مستويين: مستوى الجديد في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في ظل ڤيروس كورونا، ثم مستوى العلاقة بين واشنطن ومنظمة الصحة العالمية حول الموضوع نفسه.. موضوع هذا الڤيروس الذي طبع كل شيء بطابعه منذ ظهر وانتشر!

أما على المستوى الأول، فالواضح منذ الوهلة الأولى أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منقسمة على نفسها حول مسؤولية الحكومة الصينية عن ظهور الڤيروس لأول مرة في مدينة ووهان، آخر ديسمبر الماضي!.. وهي ليست إدارة منقسمة وفقط، ولكن يبدو تعاملها مع الملف فيما بينها وبين بكين، وكأنه تعامل من جانب مجموعة من الهُواة، أكثر منه تعاملاً محترفاً يعرف كيف يقنع الناس بما يقوله!
ظهر هذا بشكل واضح في الكلام الصادر، يوم الثلاثاء ١٤ إبريل عن مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، ثم ظهر من بعده في حديث ترامب في اليوم التالي مباشرة، عندما راح يكيل الاتهامات لبكين وللمنظمة العالمية معاً!

فالجنرال ميلي يقول إن لديه معلومات استخباراتية عن كورونا، وأنهم في هيئة الأركان يحللون ما لديهم من معلومات، ولم يصلوا لنتيجة بعد، ولكن الراجح في تقديره أن هذا الڤيروس قد نشأ في الحياة البرية، ولم يتم تصنيعه في مختبر علمي!

هذا هو حديث الرجل باختصار، وسوف تلاحظ فيه أنه ينقصه الدقة، وأن جهة في حجم هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، عندما تمتلك معلومات استخباراتية عن موضوع خطير، مثل كورونا، فالمفترض ألا تتكلم فيه إلا بعد تحليل ما لديها من معلومات، وألا تقطع بشيء إلا بعد التأكد من دلالات ما تملكه من معلومات!.. ولذلك فكلمة مثل كلمة "الراجح" التي استخدمتها الهيئة في حديثها عن مدى تورط الصين في تخليق كورونا لا يجوز أن تكون هي المفردة اللغوية التي يعبر بها مارك ميلي عن رأيه فيما يقال!
ثم إنه إذا كان قد بادر، وقال إن الڤيروس نشأ في الغالب في الحياة البرية، فهو مبدئياً يبرئ ساحة الصين من المسؤولية التي تعلقها عدة أطراف في رقبتها !
ولكن حديث ترامب مختلف، لأنه يوجه إلى حكومة الرئيس الصيني شي جينبينج اتهاماً بإخفاء معلومات عن كورونا، دون أن يحدد بالضبط هذه المعلومات المخفية.. وحين يكون الاتهام بهذه الدرجة من العمومية، فهو يظل اتهاماً في المطلق، ويظل الطرف الآخر أقدر على تفنيده بسهولة.. وهذا ما فعلته الحكومة الصينية حين ردت بجملة واحدة هي: لا دليل!

تتصرف حكومة الصين، وفق القاعدة القانونية المستقرة بين الأفراد والتي تقول: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر!

وهي قاعدة تصلح بذات الدرجة بين الأمم والدول، ولذلك فإذا كان الرئيس الأمريكي يدعي أن الجانب الصيني يخفي عنه معلومات، فإن عليه.. أي ترامب.. أن يجيء بالبينة على صدق ادعائه، وإلا فإن الادعاء يسقط على الفور.. هكذا يقضي القانون ويقول عند التقاضي بين الأفراد في مثل هذه الحالات!

والرئيس الأمريكي لا يأتي ببينة رغم أجهزة استخباراته العديدة والجبارة، ولكنه يشير من بعيد في ذات الوقت إلى أن الأمر الوارد أن يكون الڤيروس قد تم تخليقه في معهد ووهان لعلم الڤيروسات!.. ولا ترد الصين بسوى الجملة ذاتها: لا دليل !

وهو يعود ليدعو لفتح تحقيق حول سوء إدارة منظمة الصحة العالمية للأزمة، ويقرر وقف مساهمة بلاده في ميزانية المنظمة، بعد أن كان في الأسبوع قبل الماضي قد ألمح إلى احتمال وقف مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية المنظمة الدولية صاحبة اليد العليا في ملف الصحة عالمياً!

فما هي، على وجه الدقة، المسائل التي أساءت منظمة الصحة إدارتها؟!
لا يجيب ترامب طبعاً، ربما لأنه في الغالب لا يملك شيئاً يقوله في هذا الاتجاه، لأنه لو كان يملك هذا الشيء لَقاله، ولَكَسب معركته مع المنظمة بسهولة !

ينسى الرجل في أحيان كثيرة، وأكاد أقول في كل الأحيان، أنه يجلس على رأس الدولة الأقوى في العالم، وأن تجليات القوة من جانب بلاده لا تكون في السلاح فقط، ولكنها تكون في قدرة الدولة الأقوى على العمل حول العالم وفق مبادئ إيجابية تنشرها وتروج لها.
والحاصل أن قرار وقف المساهمة في ميزانية المنظمة العالمية يخلو من ذلك تماماً، وبالذات من حيث توقيته، لأنه يعاقب العالم المنشغل بمطاردة كورونا، ويعاقب آحاد الناس في أنحاء الأرض، قبل أن يعاقب المنظمة ذاتها.

إعلان