إعلان

شيء من بعيد.." قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبدالمقصود

شيء من بعيد.." قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 13 نوفمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سلم فاردًا ذراعه على امتدادها حتى أحس أنه أوشك أن يطلقها تحلق في الفضاء المحيط بالمكان، والذي تظلله أضواء منبعثة من مصابيح معلقة على أعمدة متجاورة صامتة كـأنها تشارك في تأكيد شيء ما، يمشي متمهلا في اتجاه القطار الذي تتصل عرباته بعقد بينها كدودة هدأت بعد سير مضنى.

كان الكشك الصغير تتناثر على جانبه الصحف وبعض الكتب في غير انتظام، جلس على أحد الكراسي القليلة المتاحة بحيث يراه عامل المقهى الصغير في واجهة الكشك، جاء كوب الشاي محمر اللون تصنع أبخرته المتصاعدة نداوة على جوانب حواف زجاجه التي لم يصلها حد امتلاء الشاي، شرب القليل ثم توجه نحو إحدى عربات القطار يحمل حقيبة صغيرة والصحف ونظارة القراءة.

يجلس إلى جوار شباك العربة، حيث تغطي الستارة مساحة الشباك الضيقة، يزيحها إلى آخر ما هو متاح فتتبدى له إضاءة محطة القطار ويتابع حركة العائدين والمغادرين، تضخ القطارات المتجاورة العائدة حمولتها من البشر كدفقات تتوالى، يمكنه أن يعرف المسافر من العائد من تتبع حركة السير على الأرصفة وشكل الوجوه، مجرد لعبة تأمل صغيرة يشغل بها الوقت حتى يتحرك القطار، البعض سيبدو نشيطا وربما يسير متعجلا، بينما آخرون ستحمل وجوههم استرخاء مجهدًا لا تشغله حيرة، يقول: رغم أن المسافة المقطوعة واحدة لكن هكذا شكل الوجوه يختلف، تشغله لعبة التأمل ويسعى لإثبات دقتها إحصائيا بتتبع حركة الأفراد حتى تصل إلى غايتها نحو القطارات أو إحدى بوابات الخروج، يزيد احتمال وجهة نظره مع كل تأمل جديد.

يعاود النظر إلى ستارة شباك القطار المتكومة في الجانب، خطوط زرقاء باهتة تتوازى ممتدة على أرضية رمادية، تحمل اللافتة التي تظهر بعيدة عبر الشباك أحرف اسم المدينة الكبيرة، تبدو اللافتة هنا منذ زمن بعيد تمامًا كأنها توازي ببقائها كل أزمنة سير القطارات وأعمار المسافرين، يقول إن وجودها يمنح للمكان ألفته، ويحمل معه في كل عبور به روائح كل من مروا من هنا أو انتظروا وساروا.

يشعر بحركة إلى جواره ينتبه فيجد راكبا قد ملأ مساحة المقعد الشاغر، يعتدل في جلسته ويرد تحيته باقتضاب لا يشجع على فتح مسارات كلام اعتادت أن تولدها مثل تلك البدايات، كان يحتفي بما يراه من النافذة، تعمد إظهار الانشغال بقراءة الصحيفة حتى لا يفسح لتلك البدايات التي يتحاشاها سبيلا، فهي لا تتوقف أبدا حينما تشرع ولا يمكنك أن تعرف إلى أين ستمضي بك، كان يحاسب نفسه على ذلك في البدء بقسوة حتى تصالح تمامًا مع ما يحب، ولم يعد حتى يسأل عن مكان اختفاء زر الاحتفاء اللعين؟!.

يمضي القطار ويترقب معه دوما إطلالة ذلك البيت الكبير الذي عرفه وثبت مكانه في الطريق، حيث يتبدى مكتملًا حين يقطع القطار جزءًا كبيرًا من مسارات الحقول الممتدة على الجانبين، ظل سنوات كثيرة يعتبره بيتًا يسكنه أناس ما، ويثني على اختيارهم، في أن يتوسطوا كل تلك المساحة من الزروع، ويعتقد أن هناك أطفالًا صغارًا كثيرين يعيشون به ويلوحون للقطارات التي لا تنقطع حركتها، أي حفاوة بالحياة تلك؟!

حينما مر المبنى عبر نافذة القطار يعاود قراءة الصحف، ويدير راديو الموبايل على إذاعة الأغاني ويثبت سماعتيه على أذنيه، كوب شاي، ثم فنجان قهوة، ويغلق عينيه.

كرة قوية تصطدم بزجاج شباك لا تكسره بل ترتد؛ لتقع في مساحة تحيط البيت الواسع وتفصله عن الشارع، ينادي وينادي معه زملاؤه، ولا يأتي رد، كان فريقه مهزومًا وأراد أن يستكمل اللعب، وضع أحد زملائه يديه كدرجة سلم ارتقى عليها بقدمه، ثم أمسك بيده أعلى السور ورفع قدمه الأخرى، قفز إلى المساحة التي تفصل البيت عن الشارع.

شاهد رجلًا عجوزًا قادمًا من بوابة صغيرة ينظر نحوه بغضبٍ، حاول أن يفسر ما حدث ورفع صوته مبررًا، قطع بينهما حضور صوت طيب، جرت نحو الكرة ثم ناولتها له بينما وقف الرجل صامتًا بلا تعبير.

قال للرجل: "معلش.. نادينا كتير وافتكرنا إنه.."

لم يكمل حيث قاطعه الرجل وهو ينظر نحو الفتاة الصغيرة ويقول: "خلاص وابقوا اعرفوا إن في جرس في آخر السور".

فتح الرجل له باب السور الحديدي؛ ليخرج حاملًا الكرة، لم يكن مهتمًا بأن ينتصر في مباراة الكرة، كان يحب أن يطول الوقت، يطول كثيرًا بقدر ما تنضم كل ساعات العالم معًا، يطول بكل اتساع دهشة العالم في تلك العيون الصغيرة، التي راحت تتابعهم من أعلى المبني هناك.

إعلان