إعلان

أيامي مع خيري شلبي (3)

أيامي مع خيري شلبي (3)

ياسر الزيات
09:01 م الأربعاء 20 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أجمل الأوقات التي يُمكن أن تقضيها مع عم خيري شلبي هي أوقات تجلِّيه. ويتجلَّى عم خيري، فيروي لكَ شِعرًا. هو مسحورٌ بالشِّعر والشُّعراء، مبهورٌ بِهم، منجذبٌ دائمًا إليهم. ولو لم تكن تعْرفه جيدًا، ستقول إن سرَّ هذا الانجذاب هو أنه كان يتمنَّى، ككثير من الروائيين وكُتَّاب القصة، لو أنه كان شاعرًا. والحقُّ أن عم خيري بدأ حياته شاعرًا، وكاتبًا للأغاني، ولدى أبنائه الكثير من الأغاني التي كتبَها، وأتمنّى لو أنهم عثروا عليها ونشروها في كتاب، لتُضيء ذلك الجزءَ المجهول من حياتِه. 

يمتلك خيري شلبي ذائقة فريدة في الشعر، وهي ذائقةٌ ثريةٌ بتنوّعها، ممتدةٌ عبر العصور. يحملك عم خيري، إذا صَفتْ لك روحُه، من المتنبي إلى فؤاد حداد، وينقلك بين الاثنين في لحظة، كموسيقيّ ينتقَّل بين المقامات بمهارةٍ نادرة، فلا تشْعُر بالنَّقْلة، ولا تجِد نفسَك إلا قائلًا: “الله”. استمع إليه وهو يُنشِدك قصيدة “موال الشيخ سعيد” لوالد الشعراء فؤاد حداد، لتتعرف على مواضع من الجمال قد لا تُدركها إذا قرأتَ القصيدة بنفسك، لأنَّ صوتَه يمْنحُ كلَّ كلمةٍ في القصيدة المعنى والإحساس اللذين أظن أن فؤاد حداد أرادهما بالضبط عندما كتب القصيدة.

وفي صوت خيري شلبي خشونةٌ تُشبه كركرة الشيشة في ليلةٍ هادئةٍ على حافة جبل المقطم. تلك الكركرة في صوته هي ما يُؤنسك ويحملك على جناحين من خيال، فتسرح مع ما يروي لك من أشعارٍ أو حكايات، وتغوص في ذلك العالم السحري الذي يصنعه لك. ولكنَّ تلك الخشونة في صوت عم خيري يغلفها دفءٌ أبويٌّ حنونٌ أحيانًا، وطفولة “شقية” في أحيان أخرى، وهو ينتقل بين الأبوة والطفولة بالمهارة نفسها التي ينتقل بها بين المتنبي وفؤاد حداد.

وقد يُهيَّأ لكَ مثلي في أحيان كثيرة، إذا ما رأيت عم خيري غاضبًا، أنه يمتلك نفسية مشجع زمالكاوي بعد هزيمة فريقه، فهو يثور ثورةَ بركانٍ يصعُب عليكَ أن تتنبَّأ بموعدٍ لهدوئه. ثم إنه قد يُفاجئك بهدوءٍ لا تتوقعه في مواقف قد تدعو إلى الثورة. نعم، هو متقلبُ المزاج بحدَّة، وعليكَ أن تستوعب ذلك إذا ما استوعبت انتقاله الليِّن بين الأبوة والطفولة، لكنك قد لا ترى ردود أفعاله منطقية أو معقولة، فلا تنزعج، لأنه هو نفسه سيخبرك بذلك، قبل أن يصالحك بأن يحكي لك حكاية من حكاياته الساحرة، أو يُلقي عليك قصيدة يحبها. 

والمدهش أنك قد تستمع إلى الحكاية نفسها من عم خيري أكثر من مرة، إما ببداية مختلفة، أو بنهاية مختلفة، أو بحبكة جديدة تمامًا، فلا تندهش أو تظن به سوءًا، واعلم أنه لا يقصد أن يضللك أو يكذب عليك، بل إنه غاص في غواية الحكي واستسلم لها. ويحدث أحيانا أن ينسى عم خيري أنه حكى لك تلك الحكاية، فيعيدها عليك بالحماسة نفسها. ويحدث أيضًا أن يحكي لك حكاية واقعية حدثتْ له، أو لشخصٍ يعرفه، فينسى كثيرا من تفاصيلها، ولن تشعر أبدًا بأنه أخذ يؤلف لها تفاصيل خلاف تلك التي نسيها ليكمل الحكاية، فإياك أن تُوقفه أو تسأله سؤالًا منطقيًّا، حتى لا تقطع عليه تدفقه، فيتعكر مزاجه، ويخرج منه الطفل المتذمر الملول. استمتع بالحكي وسحرِه، لأن لحظات الصفاء لا تتكرر كثيرًا.

ولو كُنتَ محظوظًا سيدعوك عم خيري إلى توصيلك في طريقه بسيارته الفولكس التي كنت أُسمِّيها الخنفساء البيضاء. وظني أن عم خيري اشترى هذه السيارة من شخص اشتراها من شخصٍ ثالث، اشتراها من رابع، اشتراها من الدكتور محجوب ثابت الذي قال أحمد شوقي واصفا سيارته المتهالكة:

“لكم في الخط سيارة/ حديث الجار والجارة

إذا حدثتها مالت/ على الجنبين منهارة”

هي نفسها، فإياك أن تضْحك إذا رأيتَ عم خيري يفتح لكَ الباب بنفسِه، أو يُغلقُه بنفسِه، أو تظنَّ أنه يفعل ذلك تبجيلًا لجنابك، فالأمر أبسَط من ذلكَ كثيرًا. يقول عم خيري إنه يعرف سيَّارته جيدًا ومدى حساسيتها، ولا يُريد لأحدٍ أن يُغلق البابَ بقوةٍ فيسْقط السقف على دماغه، أو تحزن السيارة، كما فعلتْ بنا- ذات مرة في مطلع كوبري الأزهر، وتُقسم بالأيمانات المغلَّظة، ألَّا تتحرك من مكانها، صعودًا الكوبري، أو هبوطًا منه. في تلك الأثناء، استمتع أيضًا بعصبية عم خيري وغضبه الطفولي، لكن إيَّاك أن تضحك حتى لا ينقلبَ غضبُه عليك.

إعلان