إعلان

"وريثة داود".. "إكرام" عجوز يلين لها الحديد

04:28 م الثلاثاء 16 مايو 2023

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب وصور: محمود الطوخي:

بوجه منحوت يحدده غطاء رأس أسود، وملامح قمحية واضحة، تظهر من بين ثناياها تجاعيد الزمن، تمتلك صاحبته ذات الـ65 ربيعاً، عينين حادتين تحدقان في الأسفل، نحو هدف واحد، لا يقل صلابة عن يديها الخشنتين القويتين، وعزيمتها الفولاذية، وصبرها المُتجدد.

تكرر إكرام عبد المنصف، طرق كف الفأس، الذي يثبته زوجها حجازي رشاد (الحداد المتجول) صاحب السبعين عاماً، الذي قرر الانتقال إلى عرب الغديري بمحافظة القليوبية التي تبعد عن قريته الأم (طنان) بنحو 20 كيلو متراً، للبحث عن لقمة عيشه بعيداً عن مسقط رأسه التي هجرها مضطراً بعدما ضاق به الحال هناك، حيث تراجع اعتماد المزارعين بها على أدواته الحديدية اليدوية.

تتناول إكرام وزوجها الإفطار في بقعة خالية على جانب الطريق اتخذاها مكاناً لمزاولة عملهم بالبلدة، قبل الاستعداد للعمل الشاق، لتقوم بعدها بإشعال النيران في بعض قطع الحطب المتناثرة بالشارع، بطريقة بدائية، قبل إضافة كميات صغيرة من الفحم.

IMG_3703 (1)

"بشتغل مع زوجي من يوم ما تزوجته" تقولها إكرام بنبرة تلخص معاني الفخر والدعم والقوة، التي لطالما قدمتها لزوجها على مر سنوات العمل المضني، فلم تخذله في ضربة مطرقة تفلّ بها الحديد، ولم تتوقف يدها عن دفع آلة نفث الهواء لتبقي النيران مشتعلة، رغم تقدمها في العمر وما تعانيه من آلام في المفاصل ومشاكل في العينين جرّاء تعرضها لألسنة اللهب والدخان الناجم عنه.

لا تبالي إكرام عبد المنصف بتحديق المارة، وأصوات السيارات والجرارات الزراعية التي تسير بجوارها، ولكن تصب تركيزها على موضع سقوط المطرقة، تستعين بما تبقى من صحتها، خلال رحلة رفع المطرقة للأعلى، فتعاود الطرق بقوة تناسب صلابة الحديد، وما أن تنتهي من مساعدة زوجها في سحب قطعة من الحديد تجلس منهكة تلتقط أنفاسها المتسارعة على إثر ما بذلته من جهد.

هي سيدة تقدس "الأصول" من زمن لم يعرف الشكوى من قسوة الحياة، لا تبدي ضجراً أو امتعاضاً جراء ما تلاقيه من معاناة يومية لا تنتهي إلا بالنوم.

وتعكف إكرام على مساعدة زوجها منذ أكثر من 40 عاماً، حيث تعرفت عليه عن طريق أسرتيهما فهما أبناء بلدة واحدة، قرية "طنان" التي اشتهرت في الماضي بكثرة "الحدادين" من أبنائها، وكان حجازي الذي ينحدر من أسرة امتهن جميع أفرادها "الحدادة" أشهرهم، ولم يكن العمل بتلك المهنة مقتصراً على الذكور فقط من أبناء العائلة، حيث عملت شقيقته "عطيات" حتى وفاتها بمهنتهم المتوارثة.

IMG_٢٠٢٣٠١٢٢_٠٨٥٣٢٣_1

يقول الزوج حجازي رشاد لـ"مصراوي" "أنا ورثت الصّنعة عن أبويا وجدي"، لكن الأمور تغيرت كثيراً عن السابق، حيث يقبل عليه عدد محدود حالياً من الزبائن بعد الاتجاه نحو الأدوات الجاهزة.

ويوضح حجازي أنه اضطر مؤخرا للذهاب إلى مدينة المنصورة بالدقهلية لصهر وطرق الحديد الذى يحتاجه في عمله، فلم يعد بمقدوره وزوجته العجوز فعل ذلك، وهو أمر يكلفه ما يقرب من 80 جنيها للقطعة الواحدة قبل أن يكمل عمله عليها ليبيعها لاحقا بحوالي 100 جنيه، وهو ما يدفعه إلى اقتراض مبالغ مالية من بعض معارفه وصل مجموعها إلى 30 ألف جنيه: " بنتهرب منهم هنا وهنا.. يعنى هاندفع منين".

IMG_٢٠٢٣٠١٢٢_١٠٥٢٠٢_2

تميل الشمس إلى الغروب وينقضي يوم آخر من العمل، فيهمّ الزوجان بفض مجلسهما على جانب الطريق وجمع عتادهما، وفي طريق العودة يشتري حجازي طعاما يناسب ما جناه من مال زهيد ليسد جوعهما الممتد منذ الصباح.

ويسيران بعدها حتى يصلا منزلاً طينياً استأجراه مقابل 500 جنيه ليقيما فيه حتى انتهاء عملهم بقرية (عرب الغديري) والانتقال لبلدة أخرى، يخلو المنزل من أي أثاث عدا سرير كان بعض جيرانهم قد أعاروهما إياه ليقيهما عناء التمدد على الأرض وشعلة صغيرة تستخدمها إكرام للطهي، فيغتسلان من غبار الطريق واسوداد أيديهم من أثر الفحم ويستبدلان ثياب العمل بأخرى مهندمة.

تقول إكرام: "بلف معاه من بلد للثاني والشغلة بتاعتنا خلاص بٍطلت مابقاش حد يحتاجلها"، لتعرب عما وصلت وزوجها إليه من حال لا تمكّنه من إجراء عملية جراحية تتكلف نحو 7 آلاف جنيه لعينيه التي تعانيان من علّة "المياه البيضاء"، بالإضافة إلى "خشونة الفاصل".

وتعد إكرام الطعام على عجلة فيتناولانه برضى شديد ينبت من أعينهم بعد عمل استهلك طاقتهم الشحيحة، وبعد أن ينتهيا لا يجدا سبيلا للتسلية سوى تبادل تلك الذكريات التي تبعث في نفوسهم الفرح تارة والشجن تارة أخرى، وما أن تحلّ التاسعة عليهم حتى يخلدا للنوم ليريحا أجسادهم المنهكة بفعل "الحدادة".

أقرأ أيضا:

عادل والمشغولات الذهبية.. حكاية رحلة من المكسب للإفلاس "صور"

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان