إعلان

بعد 28 عامًا على زلزال 1992.. رحلة البحث عن أكثم (الحلقة الأخيرة)

05:06 م الأحد 18 أكتوبر 2020

أكثم خلال وجوده داخل المسشفى- تصميم أحمد كامل

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب - أحمد الشمسي:

تصوير - حسام دياب:

انتظرنا عدة أسابيع، على أمل أن يتصل مُسعد هوجان، وفقًا لوعده لنا بأنه سيذهب معنا في جولة للبحث عن أكثم في آخر مكان التقاه فيه، قبل 25 عامًا.. انتظرنا كثيرًا دون جدوى.

لحظة خروج أكثم كانت كفيلة بتحويل مشاهد الحُزن والنحيب إلى فرحة وزغاريد، ما يزيد على ثلاثة أيام، لا يرى الجميع سوى جثامين ومشاهد تفطر القلوب وتدمي العيون، إلا أن أكثم كان كفيلاً بإذابة كل ذلك. شعر باحتفاء الجميع، لكن جسده كان مُتشبعًا بالحسرة، فهناك حياة أخرى عاشها خلال 82 ساعة تحت الأنقاض، ساعات فقد فيها أعز ما يملك، لكنه قرر أن يخرج نورًا من بين الظلام.

مع كل شعور بالعجز أمام الوصول إلى "المعجزة"، كنا نتذكره هو، وكيف جاهد ولم يفقد الأمل قط؟!، لذا لم نفقد الأمل نحن أيضًا في اتصال "مُسعد هوجان" بنا، لكي نذهب في حلقة رحلة أخرى، ربما تكون الأخيرة، في البحث عن أكثم.

ضربت عقولنا التساؤلات: ماذا لو كان أكثم حيًّا فعلاً؟ كيف يبدو من احتفى به ممن يعرفه ومن لا يعرفه، هل ما زال عنوانه لدى مُسعد ثابتًا وموجودًا.. أم انتقل، ربما سافر إلى السعودية كما قال لنا عاطف الفكهاني الذي تعامل معه وجهًا لوجه، هل توفي ودُفن في البقيع كما أخبرنا أحد العاملين في المستشفى، ماذا حل به، كيف أصبح، ذلك الشخص الذي فقد الجميع وارتبط به الجميع، نال محبة جيله، وأدهش الأجيال اللاحقة... هل سنصل إليه أصلا؟!

رنين الهاتف قطع تساؤلاتنا، كان مُسعد هوجان، الذي اتفقنا معه على موعد لبدء رحلة جديدة للبحث عن أكثم.

بعد صلاة ظهر الجمعة، التقيناه خارج المسجد، وانطلقنا من منطقة 6 أكتوبر، وصولاً إلى إحدى مناطق مصر الجديدة. روى "مُسعد" خلال رحلتنا حكايات متعلقة بعمله الجديد، ومحاولته تأمين مُستقبل ابنه الوحيد، ولم يخلُ الحديث عن "أكثم"، وأخلاقه الرفيعة وأدبه الجمِّ.

أخرج لنا "مُسعد" من جيب قميصه صورة صغيرة له (6 في 6)، تكشف عن ملامحه قبل 25 عامًا، قبل أن يُتمتم متسائلاً: "يا ترى لو حي.. هيتذكرني.. ده الواحد شكله اتغير خالص".

خلال رحلة البحث عن أكثم، اكتشفنا أن هناك من كان يخالجه يقينٌ مؤكدٌ بأن أكثم حي، ولم يمت في الزلزال. نابغ عبدالقادر –ابن خالته- كان متأكدًا أنه سيخرج حيًّا. الصديق المُقرب لأكثم محمد صالح، كان واثقًا هو الآخر –وفقًا لأرشيف الصحف- أنه ما زال حيًّا.. مُسعد كان يتمنى هو الآخر أن نجده أو على الأقل نعرف ماذا فعل به الزمن؟.

ما إن تجولنا داخل منطقة مصر الجديدة، حتى ضربت الحيرة عقل مُسعد: "ياااااه.. دي الأماكن اتغيرت خالص...!"، الطرق والشوارع، مكان ترام مصر الجديدة الذي أصبح حارة للسيارات.

أصبحنا نلتف حول الميادين الصغيرة بالمنطقة، ظل يوجهنا يمينًا ويسارًا داخل الشوارع، تُهنا وسط نسيان "هوجان"، العقارات كلها متشابهة، فيما ظل هو محاولاً التذكر.

توقفنا واتجهنا إلى حراس العقارات، سألهم "هوجان" تحديدًا عن علامة مميزة ليتذكر من خلالها "أين كان يسكن أكثم؟".

لما يقرب من الساعة نتجول ونحاول الوصول، تخللنا الشوارع مرة أخرى، حتى وقف "هوجان" أمام عقار مُميز، تُحيطه الأشجار من كل جانب، يتجاهله ثم يعود إليه، قبل أن يُهلل فرحًا ويبتسم ويُقسم: "هو ده.. والله هو ده.. هو مش معقول يعني ذاكرة الواحد تتمسح بسهولة"، اتجهنا نحو حارس العقار المقصود وسألناه عن أكثم.. نظر إلينا الحارس بريبة، بدا على وجهه وكأن أحدًا لم يسأل عنه من قبل، قبل أن يُجيب بتردد: "أؤمرني يا أستاذ طيب.. عاوز حاجة؟!"، أذهب مُسعد الخوف والتردد الذي خيم على حارس العقار: "إحنا كنا عاوزينه بس.. مفيش حاجة.. إحنا ضيوف وعاوزينه"؛ ليُجيب الحارس: "أيوه.. هو موجود هنا"، طلبنا منه بلهفة: "طيب ممكن تبلغه إن فيه ضيوف عاوزين يقابلوه تحت هنا!". أومأ برأسه موافقًا.. تسللت السعادة نفوسنا.

بعد دقائق؛ سمعنا خطوات -على درج السُّلم- رجل على مشارف الستينات، يرتدي جلبابًا، ذي لحية بطول عقلتين من أصابعه، قوي البنية، أمعن بعينيه يتفحصنا، ألقى "مُسعد" عليه السلام، قبل أن يُذكره: "أنا مُسعد يابشمهندس.. مُسعد اللي كنت شغال في الألوميتال..."، نظر إلينا "أكثم" مُستعجبًا: "أيوه.. مين حضراتكم.. عاوزين مين؟!"، فيما كان يُراقب حارس العقار المشهد من بعيد، وكأن "أكثم" لا يسأل عنه أحد.. ألقى مُسعد بسيلٍ من الذكريات على "أكثم": "حضرتك مش فاكر المزرعة اللي في طريق بلبيس.. طيب فاكر شغل الألوميتال اللي كان في معرض مصر الجديدة..."، صار مُسعد يتحدث فيما كان "أكثم" يحاول هو الآخر التذكر، ومن بين حديثه ذكر "نابغ عبدالقادر": "أنا مُسعد يا بشمهندس.. مُسعد اللي حضرتك ودتني عند البشمهندس نابغ.. نابغ عبدالقادر.. اللي اشتغلت معاه بعد كده".

تنهد "أكثم" قليلاً، كانت لا ترتسم سوى ملامح الاستعجاب على وجهه، وفي لحظة، ابتسم بهدوء؛ لينطق مُستريحًا: "أستاذ مُسعد.. اللي مع نابغ في 6 أكتوبر.. يا خبر أبيض....".

لم يُعطِ "مُسعد هوجان" مساحة لأكثم حتى يتحدث، تذكرا التفاصيل المُتعلقة بالأقارب والمعارف والأصدقاء المشتركين، والعمل الذي جمعهما منذ ما يقرب من 25 عامًا.

تفاصيل دارت خلال لقائنا بأكثم، تذكرنا من خلالها الخيوط التي صنعناها، وشجرة معارف أكثم، بداية من سوسن توفيق، وكيلة التمريض بمستشفى هليوبوليس، والتي تعاملت مع أكثم وجهًا لوجه: "لو عايش.. يا ترى هو عايش حياته إزاي؟.. يا ترى اتجوز؟.. عنده أولاد؟.. بس اللي فاكراه ومتأكدة منه إنه عمره ما ينسى اللي حصل..."، مرورًا بنابغ عبدالقادر الذي دمعت عيناه عندما روى حكاية "سميرة" ابنة أكثم: "ماتت وكان عاجزًا عن أن يقدم لها حاجة"، ثم بفقدانه والديه وزوجته، نهاية بخروجه حيًّا من تحت الأنقاض.

ظل مُسعد يُسهب في الذكريات، تبدلت ملامح "أكثم" قليلاً مع التحدث في تفاصيل الزلزال، أخبرناه أن سيرته لا تزال حية، وشرحنا له رحلة بحثنا عنه التي بدأت منذ ثلاث سنوات ونصف السنة.

الزلزال بالنسبة لأكثم، من الماضي، ذكرياته ولت، هي إرادة الله أولا وأخيرًا، ليس كونه –كما يقول- خرج حيًّا ولكن لكونه ظل حيًّا وسط ما حدث.

التجربة التي مر بها أكثم، من شدة قسوتها، شرخت الحجر وشوهت الحديد، لكنه ظل متماسكًا، حتى بعد إنقاذه، ما لبث أن خرج من المستشفى حتى اختفى، حتى مجال عمله في السياحة قرر عدم العودة إليه، ربما يُقلب عليه صفحات الماضي، خلال تعرفه بزوجته الأولى "تنسيانا" التي كانت ضمن أحد الوفود السياحية الإيطالية، وكانت شركته الكائنة بميدان الإسماعيلية تُنسق وجود هذه الوفود –حينها-.

عاد "أكثم" لمهنته الطبيعية، يمتلك قطعة أرض، يغرس ما تعلمه فيها: "الحمد لله، ربنا كرمني بزوجة، وعندي 4 أبناء (ولد وثلاث بنات)، يحاول بقدر الإمكان استكمال حياته بعيدًا عن الصخب، لذلك لم يظهر خلال 28 عامًا.

في النهاية توصلنا إلى أكثم،.. لم نُرد الإلحاح عليه، وتذكيره بما جرى، والنبش في ذكريات مرَ عليها 28 عامًا.. قررنا الابتعاد والاكتفاء، احترامًا لرغبته، وحفاظًا على خصوصية وحياة شخص كان حديث العالم في وقت ما بالقرن العشرين... كان "معجزة".

كان يشغلنا جدًا معرفة ما حدث لهذا الرجل طوال 28 عامًا، كيف بنى حياته التي دمرها الزلزال، كيف استعاد حياته مرة أخرى، بدا لنا هادئ النفس، مُطمئنًا وجميلاً؛ اكتسبنا منه جرعة حقيقية من السلام النفسي ومقدارًا من الزُهد والرضا: "كل شيء مكتوب.. واللي ربنا رايده هيكون.. ولا مفر للإنسان من قدره".

فضل "أكثم" أن تظل حكايته في الأذهان، وتبقى أسطورته حية كما حياته الجديدة…

لمشاهدة فيلم البحث عن أكثم.. اضغط هنا

اقرأ أيضًا:

لقراءة جميع حلقات رحلة البحث عن أكثم.. اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: