إعلان

بالصور- ''أشباح'' السويس يستعيدون أيام المعارك على مقهى ''العلمين''

08:02 م الخميس 23 أكتوبر 2014

الحياة اليومية في مدينة السويس

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- إشراق أحمد ودعاء الفولي:

كان هدير الحياة اليومية في مدينة السويس مستمرا؛ سيارات تملأ الشوارع، أطفال انتهى يومهم الدراسي لتوه فخرجوا يتضاحكون، محال في كل مكان، مدينة لا تبدو تفاصيلها منمقة، لا تختلف عشوائيتها عن أماكن كثيرة بمصر، إلا أن مقاهي ''بلد الغريب'' ليست كغيرها، وإن بدت ذلك في بقعة هادئة من شارع النمسا كان مقهى ''العلمين''، تحت سقفه يجتمع أصدقاء سنوات الحرب، جعلتهم ظروف العدوان مقاومين بإرادتهم، فيه كانت بداية علاقتهم، ومنه بدأ نضالهم، فصار شاهد على ذكرياتهم حتى المعركة الأخيرة في 24 أكتوبر 1973 التي أودت ببقاء إسرائيل على أرض مصر.

لا يبدو المشهد مختلفا؛ الحاج أحمد بكري في جلبابه المميز يحصد المقهى جيئة وذهابا لإحضار طلبات الزبائن؛ عمره جاوز الخمس وستين عاما ولازالت الحركة والعمل باليد أمران لا يستطيع الاستغناء عنهما، ظهره المحني لا يمنع ابتسامة على وجهه، طالما المقهى ممتلئ بالجالسين على المقاعد يلعبون بأوراق الكوتشينة.

بركن يسار المقهى، يعلق الحاج أحمد صورة تذكارية تجمع وجوه من ترددوا عليه، لكنهم ليسوا زبائن تقليديين، بالأبيض والأسود احتفظت الصورة بذكرى هذا اليوم الذي سبق أول عملية لمجموعة الفدائيين بقرابة شهرين، انتزعها صاحب المقهى أو كما يصفونه ''كاتم الأسرار'' من الحائط، وباتت أعين الرفاق عبد المنعم قناوي، ومحمود طه تتفحص الوجوه بالصورة.

بدأت دائرة استعادة الذكريات، يعيدون ذكر أسماء الوقوف دون ترتيب، يشير الحاج أحمد إلى الشخص الواقف يساره ''الكابتن مصطفى أبو هاشم ده كان قائد المجموعة'' ويقف ''طه'' بأصبعه على أخرين؛ كان هو وصديقه ''ده بقى الشهيد الحي عبد المنعم قناوي'' يقولها مبتسما، فمرات الموت التي عايشها ''أشباح السويس'' –وصف رجال المقاومة الشعبية- وبقائهم بعدها لقرابة 40 عامًا في نظره جديرة بهذا اللقب.

الضربات تتوالى، نقاط العدو تتساقط واحدة تلو الأخرى، منذ السادس من أكتوبر وتحقق العبور، لم تستوعب إسرائيل ما حدث، المباغتة بالحرب أربك حسابات قواتها، فما كان إلا أن تلجأ إلى محاولة أخيرة أشبه بمن يختنق، وبات جسده يصدر حركات جنونية، كانت القوات تبعد 30 كيلو متر عن السويس، قبل أن تقرر دخولها في 24 أكتوبر، لكن رجال المدينة الباسلة كانوا بالمرصاد، بيد رجل واحد وقفوا، ينتشرون في المكان، الجميع يقاتل، لا فرق بين رجل عسكري، ومواطن، وفدائيين لم ينكشف أمرهم منذ عام 1968 إلا في ذلك اليوم الذي أصبح عيدا قوميا للسويس.

بين عام 1967 وحتى الانتصار، كانت الصواريخ تسقط قريبة من مقهى ''بكري''، الذي استقر في السويس رغم التهجير الذي عقب الحرب ''وأسيب مكاني وقهوتي وصحابي لمين؟''، لم تكد أيام معدودة تمر حتى يموت أحد السكان، كحال البيت الذي أُطلق عليه صاروخ من قبل القوات الإسرائيلية ومات أهله جميعا ''بقوا يشيلوهم كدة يا عيني على العربية الكارو''.

بعدها وتحديدًا في مايو 1968، تكونت مجموعة الفدائيين ''منظمة سيناء العربية''، هزيمة 1967 وضرب مواقع الجيش دون قتال، أشعلت نار الثأر في قلوب الشباب ''عاوزين نقاوم اليهود'' هكذا كان ردهم بعد أن علمت المخابرات المصرية، بالتقاء مجموعة من المصريين مع الفلسطينيين، ''كنا عاوزين نشكل مجموعة زي المقاومة الفلسطينية'' يقول ''قناوي'' عن سبب هذه اللقاءات، حينها التمست المخابرات صدق وحمية هؤلاء الشباب، في سعيهم لمساعدة البلاد، فكانت مجموعة السويس بقيادة مصطفى أبو هاشم.

عقب النكسة كانت السويس مجتمعا للرجال، وآل المقاومة من أبناءها الذين أرادوا المساعدة بأي ثمن، دور ''بكري'' كان بالأساس مساعدة المناضلين في معرفة المعلومات عن بعضهم، وتسهيل التواصل مع المخابرات المصرية، من المقهى عرف الكابتن ''أبو هاشم'' بطل المقاومة الشعبية ''يوم ما مات كان عندي في القهوة على العصر.. قال لي أنا رايح النادي واتضرب هناك بصاروخ''، يقول ''بكري''، الحزن على استشهاد قائد المجموعة لا يبرحه إلى الآن ''مفيش حد في مصر زيه.. الأرض بكت عليه والله''.

كان المقهى مقر اجتماعات رجال منظمة سيناء العربية حتى حرب أكتوبر، لم يساور الشك أحد المترددين عليه في هوية المجموعة، يتسامرون، يلعبون، يمضون أوقاتهم داخله كغالبية رجال السويس، يذهبون لتنفيذ العمليات ويعودون، لا يتأثرون بذكر أخبار انفجار أو أسر جنود العدو وغيرها ''كنا نقتل القتيل ونمشي في جنازته'' يصف ''قناوي'' حالهم بعد كل عملية، حتى عقب أقوى وأولى العمليات التي ذاع صيتها، واهتزت لها أرجاء إسرائيل، في 15 نوفمبر 1969 ''كنا نراقب العدو بالنهار ونهاجمه باليل لكن دي أول مرة نعبر بالنهار''، ففي عملية ''وضح النهار'' تم رفع العلم المصري لأول مرة قبل حرب أكتوبر ''واللي بسببه راح 18 عسكري إسرائيلي.. كل اللي يحاول ينزله يضرب''.

عندما جاء ''بكري'' من سوهاج إلى السويس 1950 كان مراهقا، عمل مع أحد الأجانب قبل أن تدق حرب 67 الباب، اشترى المقهى المملوك لخواجة يوناني، غير اسمه من ''البرابرة'' إلى ''العلمين''، وافتتحه عام 1960، عايش العدوان الثلاثي 1956، في الشارع كان الجميع مستعدا لمحاربة العدو، يذكر عندما جاءت سيارات الجيش وهو بعمر 15 عام تُعطي الجميع في السويس أسلحة للدفاع عن الأرض، استطاع الفتى الحصول على واحد، لم يكن صالحا للاستخدام، لكنه كان يتباهى به خاصة عندما أتى صلاح سالم مارا بأحد الشوارع ''شافني وقال لي تعالى يا بابا ايه اللي معاك ده.. قولت له ده سلاح عشان أضرب بيه العسكري لما ييجي''، قال العجوز ضاحكا بفم شبه خالي من الأسنان.

لم يعلم ''بكري'' أنه سيكون صاحب مكان يجمع مناضلين الحرب بين مصر وإسرائيل، حتى أنه أصبح موثوقا فيه بينهم، انضم للمؤسسة ليكون خط الاتصال بين زملاءه وبعضهم وبين المخابرات المصرية، صار المقهى كحاوية تجمع أسرارهم ''6 سنين كنا ناكل ونشرب ونقضي يومنا هنا'' حسب قول ''قناوي''.

مع بدء حرب أكتوبر لم يعد المقهى مكان تمركز رفاق المقاومة، صارت الشوارع حيث القتال، والمستشفيات للاطمئنان على الجرحى وحفظ الشهداء، هم المقرات لأبناء السويس بشكل عام، ورجال منظمة سيناء العربية بشكل خاص.

ظلت الكمائن مجهزة بكافة أرجاء المدينة الباسلة، حتى بدء معركة السويس بدخول قوات العدو الذي ظن أنه قادر على احتلالها، إذا سيطر على شارع الجيش بميدان الأربعين، غير أن أهل المدينة الصغيرة لم يحققوا له ذلك، ''كان على جثتنا يدخلوها'' يقولها ''طه'' بحماس الأمس، تركزت مهمة الرجل السبعيني في إحراق الدبابات؛ بالبنزين والقنابل الحارقة، بمشاركة محمود عواد قائد المجموعة وابن خاله محمود عبد السلام الشاب ابن 19 عامًا، ''كانت حرب شوارع'' يصف الفدائي الأمر.

ظهر يوم 24 أكتوبر كاد ''طه'' أن يفقد حياته، ترك رفيقه ''عواد'' ليحضر الأر بي جي، فالمعركة كما يصفها ''كانت معركة أر بي جيهات''، كان كمين للعدو قد نصب على مشارف الطريق، بالخلف تمركز جنود أخرين، فانهال عليه الرصاص ''لكن اللي ضرب من ظهري جت في اللي كان قدامي''، انبطح ابن السويس أرضا وأخذ يزحف لمسافة ليست قليلة أصابت ذراعيه ورجليه جراء ذلك ''الجلد بقى يطلع من مكانه من كتر الزحف''، لكن ذلك لم يثنيه، فبعد أن تلقى الإسعافات بالمستشفى، عاد للصفوف مشاركًا في عملية جديدة.

''النصر أو الشهادة.. مفيش حلاوة إلا ولها تمن'' هكذا كان يدفع الفدائي نفسه، وكذلك كل رجال المقاومة، في ليلة الخامس والعشرين من أكتوبر، وبإحدى البيوت القديمة ذات الطراز الإنجليزي بمنطقة ''ذرب'' بحي الأربعين، كان يختبأ قرابة 5 جنود إسرائيليين، ما علم ''طه'' ورفيقه ''عواد'' بوجودهم، لكن القدر تدخل مع لحظات هدوء سادت المكان إلا من صوت أحدهم ''عسكري إسرائيلي طالع من حتة اسمها المطافي يغني أنت عمري بصوت عالي''، نظر إلى القائد ''عواد'' قائلا ''في صوت من بعيد''، فأماء له مؤكدًا سماعه إياه ''ومكناش نعرف أن اليهود فوق دماغنا في أوضة تشغيل السينما''، إلا بعد طلقة خرجت من مكانهم عبرت فوق رأس ذلك العسكري، وبنظرات متبادلة معناها أن يتم أسر هذا الجندي، ركض ''طه'' نحوه مثبتا له، ورغم حركاته المحاولة الفرار، وإصابة ابن السويس، غير أنه استطاع أسره، ثم فرغوا للقضاء على المنزل.

النيران تلتهم مخبأ الجنود الإسرائيليين ''كانوا بيصرخوا زي الفيران'' يحكي ''طه'' عن لحظات ''الحريقة'' التي أضرموها قبل ساعات من وقف إطلاق النيران، فالصوت لم يفارقه كما صدى صوت محافظ السويس حينها ''محمد الخولي''، ومدير الأمن ''محي الدين خفاجة'' وهم يكبرون لحث الرجال على الثبات، واستمرار القتال الذي لم يكن هناك بديل عنه خاصة مع سقوط الشهداء.

مع ذكر الحرب، تعود لـ''بكري'' تفاصيل ضرب السويس في أيام سابقة؛ الصواريخ تشتد، لا يعلم الناس أي منزل سيكون القادم، يتمتم البعض الأدعية، ويقبع آخرون داخل البيوت أو الخنادق، أما رفقاء المقهى فيقفون أمامها يتابعون الأمر، وسط الرعب تخرج ضحكاتهم مجلجلة، ''بكري'' لا يريد الاختباء بالداخل؛ لذا يُحضر منضدة يضعها فوق رأسه؛ ظنا منه أنها ستحميه، كان هو أصغرهم سنا وأقلهم جسد، في أوقات أخرى كان يدخل إلى المقهى مع الجميع ''وقت الضرب كنت ألاقي ناس من الشارع وعساكر بيستخبوا عندي.. مكنش فيه مكان نقف من الزحمة''، الرحمة الإلهية فقط هي ما عزلت المقهى عن صواريخ العدو ''متضربتش ولا مرة مع إن البيت اللي وراها وقدامها وجنبيها انضرب''.

يواصل رفاق المقاومة تبادل وضع أصابعهم على وجه مَن بالصورة التي تجمعهم، تنسدل التفاصيل دون توقف، ذكر محاسن الشخص، حمله لصفة البطل، التي لم تفارقهم جميعًا، بل تحولها من صفة تلتصق بالرياضة إلى ساحات المعارك، فمجموعة الفدائيين كانوا محترفين لرياضات عدة، ولذلك أثر في الأدوار التي قاموا بها في العمليات، ولهم في الثلاثي إبراهيم سليمان، وأشرف عبد الدايم، وفايز حافظ مثل.

''تحرير قسم الأربعين'' هي المهمة التي تطوع لتنفيذها الثلاثي، تقدم ''سليمان'' لدور قفز سور القسم، كان بطل في الجمباز لذا لم يجد صعوبة في الأمر، فيما كان ''عبد الدايم'' و''حافظ'' أبطال في المصارعة وألعاب القوى، فتكفلوا بأبواب القسم لاقتحامه، وحمل الأر بي جي، أتم الرفاق المهمة، وحياتهم كانت ثمن ذلك، سقط الثلاثي في تلك المعركة يوم 24 أكتوبر، توفى ''فايز'' تاركًا ابنه بعمر سنتين، فيما قذف جنود إسرائيل ''سليمان'' بقنبلة ''إف1''-تُستخدم لضرب الحائط الخرساني- لحظة تسلقه، فلفظ أنفاسه الأخيرة فوق السور، وظل حتى اليوم الثاني معلقًا إلى أن أنزله ''طه''.

ما بين يومي 14 و24 أكتوبر مشهدين لا ينساهم ''طه''، في الأول قام مع ''سليمان'' بالمشاركة في إجراءات غسل الشهيد أحمد حمدي، ليلقى ''سليمان'' الشهادة بعد عشرة أيام، ويبقى هو لينتشله من فوق سور قسم ''الأربعين''، حمله دون الشعور بثقل جسده رغم منافاة ذلك لحقيقة المتوفى ''لكنه شهيد مش أي حد''، لا يفتأ يذكر يده المتشبثة بجانبه الأيمن رغم وفاته، ومحاولات الرفاق انتزاعها عنه ليحملوه إلى مثواه الأخير، كان ذلك الموقف قبل ساعات من وقف إطلاق النيران بعد قرار مجلس الأمن، الذي لم يسعد به ''طه'' ورفاقه رغم الخسائر التي كبدوها للعدو ''كنا زعلانين جدا.. وهم اللي كانوا عاملين فرح''، عهد أخذه ورفاقه ''اللي يدخل السويس ميطلعش تاني'' لكن نفد منه البعض بعد القرار، ليتأكد حسم النصر بعد معركة السويس.

صورة رجال المقاومة الشعبية بالسويس لم تفارق ''قناوي''، الذي التقطها بكاميرته اليدوية ذات الصناعة الألمانية، لاحترافه التصوير الفوتوغرافي ''ظبطت الكاميرا وعملت حساب لمكاني وروحت جاري واتاخدت الصورة''، ظلت محتفظة بوجوه من بقى، والراحلين منهم، حال قائدهم الأول ''أبو هاشم'' الذي لقي مصرعه في 19 فبراير 1970.

تناقص الأصدقاء واحدا تلو الآخر تحت وطأة الحرب، غير أن تلك الأيام ظلت الأفضل عندهم ''كنا مبسوطين ومع بعض وكان لينا هدف واضح''، لا يتكلم ''بكري'' كثيرا كأصدقائه حتى بعد أن دق الشيب رؤوسهم، يصمت بينما يروي ''قناوي'' بصوت جهوري، تفاصيل ما جرى بين حربي الاستنزاف وأكتوبر، وحين يستوقفه ''طه''، يذكره بشيء سقط منه سهوا، ليلتقط طرف الحديث عن تفاصيل أخرى، فيما تنتبه لهم عيون الجالسين من الشباب، ينصتون لروايات لم يعرفوها إلا سمعا، عن جيل من أبناء السويس خاضوا أبرز المعارك ''الشعبية'' مع العدو، ويكتفي صاحب المقهى بالنظر إليهم وإلى صورته المُعلقة على الحائط عندما كان صغيرا يرتدي زي الشرطة، بينما يداعبونه هُم بالتندر على أيامهم سويا.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: