بعد 7 أكتوبر.. كيف تغير الشرق الأوسط؟
كتب : محمود الطوخي
طوفان الأقصى
كتب- محمود الطوخي
شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات عميقة ومعقدة إثر الحرب في غزة، والتي تركت آثارًا سياسية وأمنية واقتصادية واسعة النطاق؛ فمع انتهاء الصراع العسكري برزت التداعيات على الساحة الإقليمية. ويشير خبراء ومحللون إلى أن الحرب في غزة، والتي استمرت لنحو عامين، أعادت تشكيل التحالفات الجيوسياسية في ظل التطورات الميدانية الإقليمية والعدوان الإسرائيلي الذي امتد إلى عدة دول، بما فيها إيران ولبنان وسوريا واليمن وأخيرًا قطر.
في سياق ذلك، يشير اللواء محمد عباس، الخبير العسكري والاستراتيجي، إلى أن الحرب في غزة لم تنتهِ حتى الآن، لكنه مجرد وقف لإطلاق النار ولا يعني بدء عملية السلام.
وبينما يرى عباس أن وقف إطلاق النار في غزة قد يكون خطوة أولية نحو السلام، فإنه يؤكد أنه "سلام غير حقيقي"، كونه لم يُدعم بإجراءات ومعايير تضمن استمراريته، موضحًا أن "السلام لا يتحقق بمجرد وقف إطلاق النار، لكنه قد يتطور إلى عملية سلام شاملة إذا أُخذت مصالح الشعب الفلسطيني بعين الاعتبار، مع ضمان الأمن، والاستقرار، والتنمية المستدامة، والاقتصاد، واحترام القيم الإنسانية، وتحقيق العدالة والمساواة. والأهم من ذلك، أن تتوقف إسرائيل عن ممارساتها القمعية والظالمة بحق الشعب الفلسطيني".
يُبين عباس، في تصريحات لـ"مصراوي"، أن مسألة تهجير الفلسطينيين من غزة قد تقف عائقًا أمام عملية السلام التي يروّج لها الرئيس الأمريكي في خطته؛ إذ تحدّث صهره ومستشاره السابق المشارك في المفاوضات جاريد كوشنر عن طموحاته لتطوير شواطئ القطاع وبناء "ريفييرا" جديدة، ما يعني في جوهره طرد الفلسطينيين من أرضهم، وفقًا للخبير العسكري.
تقول صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، نقلًا عن مصادر، إن كوشنر شارك في صياغة خطة إنهاء الحرب بغزة. وأوضحت أن صهر الرئيس الأمريكي ومبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف يجريان محادثات مع مطورين لتنفيذ رؤية ترامب بتحويل المنطقة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".

"وقف النار في غزة بداية لحرب جديدة"
مع تزايد الآمال بإنهاء الحرب في غزة، تتصاعد المخاوف من اشتعال الصراع في جبهة أخرى قد تطال تأثيراتها منطقة الشرق الأوسط بالكامل. ففي منشور على حسابه بمنصة "إكس"، كتب مستشار المرشد الأعلى الإيراني علي أكبر ولايتي: "إن بدء وقف إطلاق النار بغزة قد يكون كواليس مشهد نهاية وقف إطلاق النار في موقع آخر".
يوضح الخبير في الشأن الإيراني وجدان عفراوي لـ"مصراوي" أن ولايتي يقصد بمنشوره احتمال انهيار الهدنة غير المعلنة بين إيران وإسرائيل، وهو ما قد يفتح الباب أمام مواجهة مباشرة ثانية بعد حرب الإثني عشر يومًا.
يعتقد عفراوي أن "لدى إسرائيل اليوم العديد من المبررات لشنّ حرب على إيران"، إذ إن أذرع طهران في المنطقة لم تعد بالقوة التي كانت عليها في السابق، كما أن إعادة فرض العقوبات الأوروبية عبر "آلية الزناد" إلى جانب العقوبات الأمريكية "وضعت طهران تحت طائلة الفصل السابع وفقًا لقرارات مجلس الأمن الدولي، ولا سيما القرار 1929 الذي يفرض قيودًا صارمة على طهران بسبب تجاوزاتها النووية والعسكرية".
إلى جانب العقوبات الاقتصادية، يتيح الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمجلس الأمن استخدام القوة العسكرية في حال إقراره بوجود تهديد للأمن والسلم الدوليين.
في الوقت الراهن، يشير عفراوي إلى أن إيران تعمل على إعادة بناء قدراتها العسكرية، وهو ما لن تسمح به إسرائيل. يضيف: "في المقابل، أعادت إسرائيل بناء قدراتها الدفاعية وعوّضت خسائرها الصاروخية، بينما لا تزال الأجواء الإيرانية مكشوفة نسبيًا أمام أي هجوم محتمل".
يلفت المحلل في الشأن الإيراني إلى أن ما يعزز فرضية اندلاع مواجهة جديدة بين إسرائيل وإيران هو أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي يُحاكم في تل أبيب، قد يجد في الحرب وسيلة للهروب من أزماته الداخلية.

بالنظر إلى تلك الأسباب، يرجّح عفراوي أن وقف إطلاق النار في غزة لا يعني بالضرورة عودة الهدوء إلى المنطقة، بل قد تنتقل المواجهة إلى جبهة أخرى مثل إيران، ما يعني انخراط لبنان بسبب دور حزب الله.
نتنياهو وتغيير الشرق الأوسط.. ماذا تحقق؟
على مدار شهور الحرب في غزة، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي هجمات على أكثر من جبهة، إذ استهدف قدرات حزب الله اللبناني، وجماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن ردًا على عمليات إسناد المقاومة في غزة، كما استهدف مواقع عسكرية في سوريا، فضلًا عن حرب "الإثني عشر يومًا" مع إيران.
في ظل ذلك، صرّح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مرارًا بأن إسرائيل "غيّرت وجه الشرق الأوسط"، وهو ما لا يمكن إنكاره في ضوء التحولات التي شهدتها المنطقة خلال الشهور الماضية، وفق عفراوي.
وفي حين يؤيد المحلل في الشأن اللبناني الدكتور أسعد بشارة تصريح نتنياهو بتغيير المنطقة، فإنه يؤكد أن ذلك التغيير ليس بالضرورة لصالح إسرائيل بشكل كامل. يوضح بشارة: "هناك إمكانية عربية لفرض حل الدولتين، وفي حال تحقق ذلك، فسيكون تغييرًا في وجه الشرق الأوسط لصالح القضية الفلسطينية، ما يعني أن حديث نتنياهو يتضمن ادّعاءً مبالغًا فيه، لكن المنطقة بالتأكيد تغيرت".
لبنان
يعتبر بشارة أن انتهاء الحرب في غزة يسلط الضوء على لبنان، فالمنطقة لا تزال تعيش حالة مواجهة مستمرة بين المحور الإيراني وإسرائيل، مشيرًا إلى أن "هذه المواجهة تنعكس نتائجها على لبنان والدول التي تتمتع إيران بنفوذ فيها، من خلال قواعد عمل وأدوات وميليشيات".
يحذّر بشارة في تصريحات لـ"مصراوي" من أن إنهاء الحرب في غزة بشكل مبدئي، عبر مراحل خطة الرئيس الأمريكي، قد يُنهي الصراع العسكري مؤقتًا بين إسرائيل والعرب، لكنه يفتح الباب أمام صراع سياسي طويل الأمد لإقامة الدولة الفلسطينية.

يؤكد بشارة أن الجميع في لبنان يترقب نتائج انتهاء الحرب في غزة بحذر، خصوصًا وأن إسرائيل تواصل استهدافاتها وخرقها لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، بينما يستمر حزب الله في التأكيد على تمسكه بسلاحه.
من جانبه، يقول عفراوي إن حزب الله كان المتحكم بشكل شبه كامل في مفاصل لبنان، غير أن إسرائيل استطاعت إضعافه عبر سلسلة من العمليات النوعية، بما في ذلك اغتيال أبرز قادته، وعلى رأسهم الأمين العام الأسبق للجماعة حسن نصر الله، وهو ما لم يكن يجرؤ أي طرف على تنفيذه دون غطاء إسرائيلي.
يضيف بشارة: "نحن أمام مشهد لبناني يترقب الأسوأ. إذا لم تتمكن الدولة من بسط سيطرتها وسلطتها على كامل أراضيها، ونشر الجيش حتى الخط الأزرق جنوبًا، وكذلك منع تهريب السلاح والمال وتفكيك البنى العسكرية غير الشرعية في البلاد".
يؤيد ذلك الخبير العسكري اللواء محمد عباس، إذ يؤكد أن لبنان يعاني من ازدواجية المشهد: "هل تستطيع الدولة نزع سلاح حزب الله؟ هل الشارع اللبناني أو الموقف السياسي يدعم الجماعة، السيادة الوطنية، أم يقف معزولًا؟"
ويشدد عباس على أن إسرائيل تستغل حالة التشتت الحالية لترويض لبنان وسوريا، وكذلك العراق، مؤكدًا أن حكومة الاحتلال تهدف إلى تغيير جيوسياسي في المنطقة المحيطة بها لتطويع المشهد العام كاملًا لخدمة مصالحها.

سوريا
في سوريا، تبع سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد تغيرات كثيرة، لكن العدوان الإسرائيلي والتوغلات البرية في الجنوب كانت من بين أبرز التطورات التي قادت إلى تحولات كبيرة من خلال الغارات الجوية التي استهدفت مواقع إيرانية وقيادات رفيعة المستوى داخل الأراضي السورية، يقول عفراوي.
كذلك، يشير عفراوي إلى أن التدخلات الإسرائيلية في الجنوب السوري، لا سيما في محافظة السويداء، مع ضعف قبضة الإدارة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، تأتي في إطار استراتيجية تهدف إلى إضعاف النفوذ الإيراني.
بدوره، يوضح اللواء محمد عباس أن سوريا أصبحت ساحة مفتوحة أمام الجيش الإسرائيلي، الذي يستبيح قدراتها العسكرية وأجواءها وأراضيها دون أي قدرة فعلية على التصدي للاعتداءات المستمرة.
وفي ظل افتقاد القدرة على الرد أو الدفاع، ينوّه عباس إلى أن إسرائيل نجحت في السيطرة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، وهو ما يعتبره مؤشرًا يعزز القوة الاستراتيجية والعسكرية لإسرائيل، خصوصًا بعد احتلالها منطقة جبل الشيخ.
يفسر عباس أهمية جبل الشيخ، قائلًا: "هو أعلى نقطة في بلاد الشام، سيمكن إسرائيل من الإشراف على مسرح العمليات القتالية والجيوستراتيجية ومراقبته في المنطقة، باستخدام أنظمة الرادار والمراقبة والاستطلاع، لتحوله إلى ما يمكن وصفه بأنه (طائرة استطلاع إسرائيلية ثابتة)، وهو ما يصب في مصلحة إسرائيل في النهاية".
إلى جانب ذلك، يرى عباس أن تغيّر البوصلة السورية وتوجه نظام الشرع نحو أمريكا بعيدًا عن انحياز سلفه بشار الأسد إلى روسيا وإيران، يعزز قدرة إسرائيل على إعادة تشكيل المنطقة.

إيران
منذ بداية الحرب على غزة، واجهت إيران اتهامات إسرائيلية بإمداد فصائل المقاومة الفلسطينية بالأسلحة والأموال، غير أن التوترات ازدادت حدة بعد استهداف مبنى ملحق بالقنصلية الإيرانية في دمشق بغارات إسرائيلية، ما أدى إلى مقتل قائدين في الحرس الثوري و5 مستشارين عسكريين كبار.
لكن هجوم "الأسد الصاعد" الذي شنّه جيش الاحتلال الإسرائيلي فجر 13 يونيو الماضي، والذي تطور لاحقًا إلى حرب تُعرف بـ"حرب الإثني عشر يومًا"، شكّل ضربة كبيرة لقدرات إيران وكشف عن اختراق استخباراتي إسرائيلي كبير.
ويلمّح بشارة إلى أن دور إيران الإقليمي ضعف بشكل كبير، وبشكل خاص بعد الحرب الإسرائيلية عليها، حيث أصبحت في مرمى الاستهداف الأمريكي الإسرائيلي المشترك.
إضافة إلى ذلك، فإن الدور الإيراني في لبنان ضعف بعد الضربات التي تلقاها حزب الله رغم أنه لا يزال قائمًا ويمثل أداة لطهران في المنطقة، يقول بشارة.
من جانبه، يصف الخبير العسكري السوري خروج لبنان، ممثلًا في حزب الله، وسوريا من المشهد، بأنه "قطع الحبل السرّي" الذي كان يربط إيران بتلك الدول إلى جانب العراق، ما أجبرها على التراجع إلى داخل حدودها وحدّ من قدرتها على التأثير مثلما كان في السابق.
في المقابل، يعزو عفراوي انسحاب إيران التدريجي من بعض العواصم العربية وتراجع نفوذها في محيطها الإقليمي إلى الضربات الإسرائيلية المتكررة ومحدودية قدرتها على الرد.

تحالفات جيوسياسية
دفعت الهجمات الإسرائيلية على عدد من بلدان المنطقة، بما فيها قطر التي تُعد حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، بعض دول المنطقة إلى البحث عن تحالفات جديدة تحمي مصالحها.
في أعقاب الهجوم على الدولة الخليجية التي ترعى جهود الوساطة بين إسرائيل وحماس، بمشاركة أمريكية مصرية، وقّعت السعودية وباكستان اتفاقية دفاع مشترك، ما شكّل تحولًا في سياسة الاعتماد على المظلة الدفاعية الأمريكية.
كذلك، شهدت العلاقات المصرية التركية تقاربًا غير مسبوق منذ نحو 13 عامًا، تزامنًا مع التوترات في الشرق الأوسط، إذ أجرى الجيشان مناورات بحرية مشتركة في سبتمبر الماضي.
ويعتقد عباس أن دورًا عربيًا إسلاميًا بدأ يتبلور من خلال بعض التعاونات بين السعودية وباكستان وإيران ومصر وتركيا، إذ تسعى هذه الدول إلى صياغة موقف جيوسياسي مستقل يركز على مصالحها.
يقول عباس: "يمكننا القول إن المشروع الإسرائيلي يُواجه الآن بمشروع عربي قد يكون في طور التبلور. هذا المشروع قد يؤدي إلى اتخاذ مواقف أكثر حدّة ضد إسرائيل ويضعها في حجمها الطبيعي".
ويأمل الخبير العسكري في أن تحالفًا عربيًا إسلاميًا من شأنه أن يحقق الأمن للمنطقة، وأن يفرض حلولًا تتناسب مع مصالح الشعب الفلسطيني، ويجبر خطط نتنياهو وكوشنر حول "ريفييرا" على التراجع، مؤكدًا أن "هذا التحدي لا يمكن مواجهته إلا بعمل عربي إسلامي مشترك يضع حدًا للغطرسة الإسرائيلية وينهي طموحاتها المتوسعة في المنطقة".

يختتم الخبير العسكري محمد عباس قائلًا إن الوضع العام في المنطقة حاليًا يصب في مصلحة إسرائيل بشكل عام، مؤكدًا أن التغيرات التي طرأت على الشرق الأوسط بدءًا من هجوم "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر 2023 وحتى "حرب الإثني عشر يومًا" بين إيران وإسرائيل، تُظهر أن "عملية طبخ" شرق أوسط جديد جارية.
لكن السؤال يبقى: من يصنع هذا الشرق الأوسط؟ هل هي دول المنطقة؟ أم قوى خارجية من خلف المحيط؟ الجواب يتطلب تأملًا عميقًا، لكن المشهد يشير بوضوح إلى محاولات إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح قوى معينة.
كما يؤكد المحلل في الشأن الإيراني وجدان عفراوي أنه "بالنظر إلى المعطيات الحالية، لا يمكن إنكار أن إسرائيل لعبت دورًا كبيرًا في إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط وتغيير موازين القوى فيه".
فيما يقول المحلل اللبناني أسعد بشارة إنه لا يمكن القول إن إيران وسوريا ولبنان خرجوا خاسرين تمامًا من المشهد الإقليمي، فكل دولة لها ظروفها الخاصة.