إعلان

المجتمع الأوروبي بين الإنكار والإفاقة

د.غادة موسى

المجتمع الأوروبي بين الإنكار والإفاقة

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

01:09 م الأحد 24 أغسطس 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

منذ حرب السابع من أكتوبر في غزة ٢٠٢٣ اندلعت موجات من الغضب الشديد ومظاهرات ومسيرات في معظم العواصم والمدن الأوروبية منددة بالممارسات الوحشية التي يرتكبها كيان الاحتلال الإسرائيلي ومنتقدة صمت الحكومات الأوروبية والمنظمات الدولية عما يحدث من مجازر في قطاع غزة.

وإزاء هذه المظاهرات التي تتسع وتشتد يوماً بعد يوم يتساءل المجتمع العربي والمثقفون العرب عن التحولات التي حدثت في المجتمع الأوروبي وأسبابها. أليس هو نفس المجتمع الأوروبي الذي صدّر لنا أزماته ومشكلاته مع اليهود الأوروبيين؟ أليس هو من تسبب في طرد وتهجير المجتمعات اليهودية إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط منذ منتصف القرن الثامن عشر وما قبله؟ هل أفاق المجتمع الأوروبي فجأة على حقيقة صنيعة يده أم هي حالة إنكار لسياساته في حقب زمنية ماضية؟

لقد أنكر المجتمع الأوروبي لعقود طويلة فكرة كون الكيان الإسرائيلي دولة احتلال ودولة فصل عنصري حتى تمادى هذا الكيان الغاصب في سياساته العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني المُحتَل. وعلى الرغم من الأدلة والصور ووضوح الانتهاكات ظل المجتمع والساسة الأوروبيون ينكرون ما يرونه ويقدمون "حقائق بديلة" لكل ما يحدث. وتكمن إشكالية الحقائق البديلة في أنه لا يمكن إثباتها بالوقائع أو الأدلة الملموسة، على وزن أن كيان الاحتلال يمثل نظاماً ديمقراطياً. فكيف تجتمع الممارسة الديمقراطية مع الاحتلال والتمييز العنصري! كما تعمل الحقائق البديلة على تزييف الواقع وتبرير الأكاذيب تحت غطاء جديد ومختلف. كما تستهدف الحقائق البديلة العواطف وغالباً ما تُستخدم في سياقات سياسية وإعلامية للتأثير على الرأي العام من خلال مخاطبة العواطف والمعتقدات الشخصية بدلاً من الحقائق الموضوعية.

وقد أصبح هذا المصطلح رمزًا لمفهوم أوسع يُعرف باسم "ما بعد الحقيقة" (Post-Truth)، وهو وضع يصبح فيه للعواطف والمعتقدات الشخصية تأثير أكبر في تشكيل الرأي العام من الحقائق الموضوعية.

وقد استخدم العديد من رؤساء الدول الأوروبية فكرة الحقائق البديلة لتبرير العديد من تصريحاتهم مثل تعرض الرهائن الإسرائيليين لدى حركة حماس للتنكيل والتعذيب والاغتصاب وذبح الأطفال دون وجود دليل قاطع وواضح على هذه التصريحات!

إن ما نشهده من مظاهرات وانتفاضات في شوارع الدول الأوروبية قد يشير إلى حالة إفاقة تتعرض لها المجتمعات الأوروبية لفشل نموذج الحقائق البديلة في أن يحل محل ما يرونه على شاشات التلفاز أو على منصات الإعلام المجتمعي. كما أن حالة الإفاقة تلك في المجتمعات الأوروبية الديمقراطية قد تكون مفيدة لتسوية القضية الفلسطينية، خاصة عندما يكون الشأن الخارجي – للمرة الأولى – أحد محددات نجاح المرشحين السياسيين في تلك الدول. فلم يعد باستطاعة الحكومات الأوروبية أن تتبنى فكرة "وزارات الحقيقة" كما استخدمها الكاتب "جورج أورويل" في روايته ١٩٨٤ من خلال استخدام المنصات الإعلامية لتزوير وإعادة كتابة التاريخ باستمرار ومحو الماضي بالكامل. كما لم يعد بإمكان الحكومات الأوروبية إعادة المجتمعات الأوروبية لحالة الإنكار بعد الإفاقة، وإقناعها بتصديق فكرتين متناقضتين في نفس الوقت – مثلما أشار "جورج أورويل" – بأن الحرب هي السلام وأن الحرية تكون في العبودية وأن في الجهل قوة.

نأمل في أن تستمر حالة الإفاقة في المجتمعات الأوروبية وأن تقف على الجانب الصحيح من الحقيقة وليس جانب "ما بعد الحقيقة".

إعلان

إعلان