إعلان

السياسة والحكم في مصر القديمة

د. أحمد عمر

السياسة والحكم في مصر القديمة

د. أحمد عبدالعال عمر
07:23 م الأحد 25 يوليه 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عرفت مصر أقدم شكل للسلطة المركزية قبل 32 قرنًا من الزمان. وقد جاءت تلك السلطة نتاجًا للظروف البيئية التي جعلت الزراعة المعتمدة على مياه نهر النيل عماد الحياة والانتاج والاقتصاد؛ ومن ثم كان قيام السلطة المركزية في مصر ضرورة أملتها الظروف البيئية لضمان الاستفاده من مياه النهر وتوزيعها بعدالة، وتحقيق العمران.

وقد عقد لواء السلطة المركزية لأقوى الحكام وأكثرهم سيطرة ونفوذًا وبطشًا، ولعبت طبيعة مصر السهلة المنبسطة دورا فعالًا في تمكين هذا الحاكم القوي من بسط نفوذه على الجميع، وعقاب المتمردين والخارجين على القانون.

بهذه المقدمة، افتتح الراحل المؤرخ والمثقف الوطني الدكتور رؤوف عباس (1939 – 2008) دراسته القيمة عن (السياسة والحكم في مصر) منذ تاريخها القديم حتى حكم أسرة محمد علي، التي نُشرت ضمن كتاب "حكمة المصريين" الصادر عام 2000، عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

عرض الدكتور رؤوف عباس في تلك الدراسة لتكوين وشكل السلطة في مصر عبر المراحل التاريخية المختلفة، محددًا أبرز عناصر رؤيتها للشعب، ودوافع ومنطلقات وأهداف خياراتها السياسة والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وكيف كان تعامل الشعب المصري معها قبولًا ورفضًا.

ولأهمية تلك الدراسة سوف أحاول عبر هذا المقال والمقالات القادمة تحديد أهم عناصرها، وإجمال الدروس المستفادة منها، وشكل الثابت والمتحول في طبيعة علاقة السلطة والشعب في مصر عبر العصور التاريخية المختلفة، ابتداءً من مصر القديمة، مرورًا بمصر الإسلامية بعد الفتح العربي، وانتهاءً بمصر تحت حكم أسرة محمد علي.

ولتكن نقطة البداية من مصر القديمة، التي عرفت- كما ذكرت سابقًا- أول سلطة مركزية في التاريخ، وقد ارتبط ظهور تلك السلطة بتنظيم الزراعة وحماية وإدارة مياه النهر، وتحقيق عدالة توزيعها، وضمان أقصى استفادة منها لتحقيق العمران، وصنع تقدم مصر، وضمان وحدتها واستقرارها.

وهذا يعني أن نشأة السلطة المركزية في مصر القديمة ارتبطت في بداياتها الأولى بنهر النيل، وأن الحاكم القوي الذي خضع له الجميع في ذلك الوقت كان منذ البداية "مهندس ري" استمد شرعيته في قلوب وعقول المصريين من قدرته على تنظيم عملية الري، وحماية مياه النهر، وتحقيق العدالة بين الجميع.

ويذكر الدكتور رؤوف عباس أن "النخبة الحاكمة المصرية" سعت بعد ذلك لتدعيم مكانتها وسلطتها المركزية بين الناس من خلال الأساطير التي أضفت عليها صفة القداسة، وأوجدت لها نسبًا إلهيًا، وجعلت حقها في الحكم مستمدًا من الآلهة؛ وبذلك اقترنت طاعة الحاكم عند المصريين بطاعة الآلهة والعكس بالعكس.

وقد قبل الضمير الجمعي للمصريين هذه السلطة المركزية ذات الطابع الإلهي طوال عشرات القرون، وتوافق المصريون مع هذه السلطة ورموزها وأساطيرها طالما كانت توفر لهم الحماية، وتنظم توزيع مياه النهر، وتيسر لهم العيش، وتنشر العدالة بينهم.

ولكن بمرور الزمن تحول المصريون بالنسبة للسلطة إلى مجرد أدوات انتاج، يفلحون الأرض لتتدفق خيراتها على الخزانة العامة، ويُقومون بالعصا وفقدان الحرية إذا تقاعسوا أو قصروا في أداء واجباتهم أو أرتكبوا ما تعده النخبة الحاكمة جرمًا يستحق العقاب.

وفي هذه الظروف الجديدة لم يكن أمام المصريين لدفع الظلم عنهم سوى الشكوى (كما فعل الفلاح الفصيح)، وأن يستعينوا بعدالة السماء على ظلم أهل الأرض كما يفعل كل المستضعفين.

ولكن هذا لا يعني أن المصريين تحملوا ظلم السلطة بلا حدود، فقد كان هناك حد أقصى لاحتمالهم، إذا تجاوزته السلطة قاموا ثائرين في وجهها كانفجار بركان.

وهذا يعني أن السلطة المركزية ميراث مصري أصيل فرضته طبيعة أرضها وموقعها والتهديدات والمخاطر التي تستهدفها، وأن شرعية السلطة في مصر القديمة كان مصدرها قدرتها على توفير الحماية للمصريين، وتيسير العيش لهم، وتحقيق العدالة بينهم، وحماية مياه النهر، وتنظيم توزيعها وتحقيق أقصى استفادة منها.

وأظن أن هذا الميراث لا يزال حيا بيننا في مصر المعاصرة، وأن العقد الاجتماعي المصري بين الحكام والمحكومين كما وضعت صيغته الأولى في مصر القديمة، والذي تأسس على واجب السلطة في حماية البلاد، وتيسير العيش للمصريين، وتوفير الحياة الكريمة لهم، وحماية مياه النهر، لا يزال هو الحاكم لعلاقة السلطة والشعب في مصر حتى اليوم.

إعلان