إعلان

مصر التي لن نعرفها ..!

د. أحمد عمر

مصر التي لن نعرفها ..!

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 07 أغسطس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أنا ابن الطبقة الوسطى المصرية بكل قيمها ومخاوفها وأحلامها، وبكل حرصها على الستر، وعلى عيش حياة كريمة تتوفر فيها ضروريات الحياة دون رفاهية، مع الاحتفاظ بـ "رأس مال رمزي" محترم يُمكّنها من القيام بدورها كحلقة اتصال بين الطبقات، وكصمام أمان للمجتمع والدولة.

وقد تأكد لي من قراءة تاريخنا الاجتماعي والسياسي أن الطبقة الوسطى المصرية، كانت هي الطبقة المُنتجة لقوة مصر الناعمة، وأنها بمنظومتها القيمية والثقافية، الحاملة للهوية الوطنية والشعور الوطني، والحامية لثوابت الأمن القومي والثقافة الوطنية.

وتلك حقيقة تتضح لنا باستقراء دور الطبقة الوسطى المصرية منذ فجر النهضة الحديثة في مصر إلى اليوم؛ فكلما أراد أحدهما أخذ مصر في الاتجاه الخطأ، ومسخ ثقافتها وهويتها، وخيانة تاريخها ودورها وثوابتها، وتهديد وحدتها وأمنها وسلامها الاجتماعي، كان أبناء الطبقة الوسطى ينتفضون لإصلاح الخطأ، وتقويم الاعوجاج في الرؤية والأهداف والمسار، كما حدث في ثورة 1919، وثورة يوليو 1952، وثورة 25 يناير، وثورة 30 يونيو.

وهذه الرؤية لا تخص المجتمع المصري فقط، لكنها تُجسد حقيقة اجتماعية عن دور الطبقة الوسطى المركزي والإيجابي في المجتمعات الإنسانية، وقد عبر عنها قديمًا الكاتب التراجيدي اليوناني الكبير "يوربيديس" في تراجيديا "المستجيرات"، عندما كتب يقول:

"هناك ثلاث طبقات من المواطنين:

الأغنياء وهم طبقة لا نفع منها؛ إذ يطمحون دومًا للمزيد.

والفقراء والمعوزون، وهم قوم مجترئون يتملكهم الحسد أكثر مما يحق لهم، وتُضللهم فصاحة قادتهم الفاسقين، فيطلقون سموم حقدهم ضد من يمتلكون أي شيء.

بينما الطبقة الوسطى من الطبقات الثلاث هي التي تحفظ المدن وتحترم النظم التي تسنّها الدولة".

وبالعودة للمجتمع المصري نجد أن سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت زمن الطبقة الوسطى الجميل، وفردوسها المفقود الذي عبرت فيه عن ثقافتها وفنها وقيمها في كل ميادين الحياة، ولعبت دورًا مركزيًا في إدارة البلاد وتحديث المجتمع المصري.

وبدخولنا في سبعينيات القرن العشرين، ونتيجة خيارات الرئيس السادات الاقتصادية في زمن انفتاح السداح مداح، بتعبير الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين، تآكلت الطبقة الوسطى، وضعف دورها، وتصدعت وتشوهت منظومتها القيمية والثقافية، وتبددت مقومات سترها، وسيطرت على المجتمع المصري- إلى حد كبير- قيم وثقافة الارستقراطية المالية الطفيلية الجديدة، وقيم وثقافة الطبقة الدنيا.

وأظن أن المُنجز الأكيد للسياسات الاقتصادية للحكومات المصرية منذ سبعينيات القرن الماضي، هو نجاحها في زيادة معاناة أبناء الطبقة الوسطى، ودمجها في الطبقة الدنيا بإزالة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواضحة بينهما.

وهذا ما يجعلني أقول: إن كفاح الطبقة الوسطى المصرية في العقود الأخيرة، وسعي أبناؤها لتدبير شئون حياتهم في سياق هذه الظروف الاقتصادية الداخلية والخارجية الصعبة، وفي ظل طوفان التضخم الذي يجتاح الجميع، دون التفريط في كرامتهم وقيمهم، هو عمل بطولي يستحق عظيم التقدير.

كما يمكن القول، إننا نعيش اليوم أكبر تحدٍ يواجه الطبقة الوسطى المصرية في تاريخها، وهو تحدٍ يهدد سترها وقيمها ودورها ووجودها - وهو للإنصاف تحدٍ يواجه الطبقة الوسطى على مستوى العالم كله - ومصر بدون الطبقة الوسطى ودورها الثقافي والسياسي التاريخي المحوري في المجتمع، لن تكون مصر التي عرفناها أو التي نريدها.

إعلان