إعلان

مقتطفات ودلالات من رحلة ابن خلدون في الربوع المصرية

د.هشام عطية عبد المقصود

مقتطفات ودلالات من رحلة ابن خلدون في الربوع المصرية

د. هشام عطية عبد المقصود
08:59 م الجمعة 01 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يقول ابن خلدون في مبتدأ وصفه لسيرة مقامه في مصر معبرا عن كيف راودت خياله عن بعد، وكيف تجلت أوصافها في عاطفته ونفسه، وكيف اجتذبته أوصاف مصر مما ذكره أمامه مجايلوه وشيوخه، "حضر صاحبنا قاضى العسكر بفاس الكاتب أبو القاسم البرجى بمجلس السلطان أبى عنان، وسأله عن القاهرة فقال: إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها، إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يُتخيل فيها" .

ويكمل في هذا المقام حديثا دالا: "سألت صاحبنا القاضي وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري، سنة مقدمه من الحج فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام" .

ثم يصف خطواته الأولى في ربوعها وكان أوائل الخمسينات من عمره وذلك في عام 784 هجريا والموافق 1382 ميلاديا، يصف تلك اللحظة الأولى لمشارفته بهاء مصر فيقول "ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر، ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت.. وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج، ولم يُقدر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي المُلك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتُزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب في علمائه، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم" .

هكذا عبر ابن خلدون في سيرته الذاتية - التي كتبها بنفسه عن حياته من أول نشأته وحتى أفول سنواته- عن مقامه في مصر، والذي كان كما قد أعلن قد جاء لها في طريقه إلى الحج، وتحول العبور وجودا مكتملا، وانبهارا ومقاما ودورا ومستقرا بل ومثوى أيضا، في تلك الرحلة التي أرخ بها لسيرته الذاتية سنتوقف عند ما ذكره عن مصر وسيرته فيها، وقد خصص لها ما يقرب من أقل قليلا من نصف محتوى كتابه الذي يوجز سيرة حياة امتدت عبر ستة وسبعين عاما، قضى منها نحو أربعة وعشرين عاما في مصر، والكتاب عنوانه "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا"، وهو منشور منذ زمان بعيد في العام 1979 من دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، وفقط يحمل الغلاف العنوان واسم المؤلف عبد الرحمن بن خلدون وكأنه كتبه توا.

ويتضح مما كتبه ابن خلدون في سيرة حياته عامة نزوعا واضحا لتقلد المناصب والقرب من ذوى النفوذ في مستوياتهم العليا، وقدرته أيضا على منح وإضفاء طابعا ما على شخصه ونصائحه وخدماته تجعله موضع طلب دائم، وتجعل له حضورا مهما مستمرا عبر الأزمان بل والبلدان، يحظى بالترحاب ويتقلد المناصب أينما حل.

يتبقى من الرجل رحلته أو سيرته أو حديثه الذي وصل به وعيه ومعرفته أن يدرك أهمية ما يكتبه ومكانة ذلك تاريخيا، فتفرغ لذلك يسرد ويدون ويضع ويؤسس لحدود دوره ومكانته في التاريخ، ربما متخوفا أن تعصف بها أهواء السياسة كما عصفت به حياتا ومقاما، فبقت سيرته تلك التي كتبها بنفسه، وما يهمنا هنا ذكر ما كتبه في فترة تواجده بمصر والتي تأتى تحت عنوان "الرحلة إلى المشرق وتولى القضاء بمصر".

ويبدأ ابن خلدون رحلته بالعمل في مجال التعليم :" ولما دخلتها أقمت أياما، وانثال عليّ طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يُوسعوني عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر بها"، ثم يواصل سرد كيف استقبلته مصر وأكرمت وفادته "ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبر اللقاء وأنس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم، وانتظرت لحاق ولدي وأهلي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر، اغتباطا بعودي إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه" . وقد استجاب السلطان. ويسرد ابن خلدون نص رسالة مطولة كاملة أرسلها السلطان في هذا الطلب الذي يداوي به احتياج ابن خلدون لونس وتواجد أهله وأبنائه.

ثم يروي تحقق أمله وطلبه المعتاد بالقرب من السلطان وتقلد المناصب، كما اتضح في مختلف أنحاء سيرته ورحلته عبر البلدان، و تحت عنوان: ولاية الدروس والخوانق"، ويعرض فيه بعضا من مشاهد حياة القاهرة ومدارسها ومذاهبها الدينية: "وكنت ولأول قدومي القاهرة، وحصولي في كفالة السلطان، شغرت بمدرسة من إنشاء صلاح الدين ابن أيوب، وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه، ووقف عليها أرض من الفيوم تغل عليها القمح، فسميت لذلك بالقمحية".

ويصف الخطبة التي ذكرها في حضرة شغره منصب العلم والتدريس في هذا المقام مختتما " فأقامني السلطان أيده الله لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدما على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشأن وإني موقن بالقصور بين أهل العصور" .

وينتهي واصفا أثر ما حدث بعد سرده لخطبة مطولة كبيرة منظومة مطولة عرضنا مقدمتها السابقة بالقول: "وانفض ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار، وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب" .

ثم ينتقل إلى تدرجه في المناصب العليا وانتقاله من التدريس والعمل العلمي إلى تولي المناصب "ولما عُزل القاضي المالكي، اختصني السلطان بهذه الولاية، تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري، وشافهته بالتمادي من ذلك، فأبى إلا إمضاءه، وخلع على بإيوانه، وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية" .

ويقص في إيجاز دال رحلة الحج التي قام بها ضمن وفد الحج المصري وموكبه، " ثم خرجت عام تسعة وثمانين للحج، واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف، وزود هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده، وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع، ثم صعدت مع المحمل إلى مكة، فقضيت الفرض عامئذ، وعدت في البحر فنزلت بساحل القصير، ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة، فأعادني إلى ما عهدت من كرامته، وتفيُء ظله" .

ونستكمل في جزء تال بعضا من خطى ابن خلدون في الربوع المصرية، وتلك السيرة التي تبدو غير مطروقة لحياته في مصر وما جرى في فترة تقارب ربع قرن من أحداث عامة مهمة ورؤيته لها وسيرته الشخصية داخل كل ذلك.

هامش:

أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته، ويكفلهم بفضله ونعمته، وييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه وشرعته، ويحملهم في العنية بأمورهم، والرعاية لجمهورهم، على مناهج سنته ولطائف حكمته.( ابن خلدون : في سيرته الذاتية لنفسه والمعنونة : التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ).

إعلان