إعلان

الإيمان الشافي

د. أحمد عمر

الإيمان الشافي

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الإثنين 27 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إنه لأمر عميق الدلالة أن تكون أهم معجزات السيد المسيح- عليه السلام- معجزات شفاء للمرضى من أصحاب الأمراض المستعصية التي ظهر جليًا عجز الطب في زمان السيد المسيح عن علاجها جزئياً أو كلياً، وفقْدُ المصابين بها الإيمانَ بقدرة البشر العاديين عن تقديم يد المساعدة لهم، وانتظروا لشدة إيمانهم المساعدة السماوية.

فالمرض تجربة وجودية قاسية، تثبت هشاشة الإنسان، وضعف وجوده وعجزه، وتجعله يُكبر بل يقدس كل من يمنحه الأمل في الشفاء، واستعادة حالته الطبيعة، ويضعه في مكانة عالية؛ ولهذا كان الحكماء والأنبياء في كل الحضارات القديمة أطباء للروح والجسد في قومهم ومجتمعاتهم.

ومن أجمل قصص الشفاء التي قرأتها في التراث المسيحي قصة المرأة نازفة الدم مع السيد المسيح- عليه السلام- التي سمعت عن معجزات شفائه للمرضى، فأصبحت على يقين لشدة إيمانها بأنها إن لمست طرف ثوبه شُفيت من أوجاعها ومعاناتها، وتوقف نزف دمها الذي استمر لاثنتي عشرة سنة، أنفقت خلالها أموالها كلها على الأطباء دون جدوى.

وقد رُويت تلك القصة في أكثر من موضع بالعهد الجديد، ومنها "إنجيل لوقا" حيث جاءت فيه حكايتها على النحو التالي: "وَكَانَتْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزِيفٍ دَمَوِيٍّ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَعَ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَا تَمْلِكُهُ أَجْراً لِلأَطِبَّاءِ، فَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ الشِّفَاءِ عَلَى يَدِ أَحَدٍ.

فَتَقَدَّمَتْ إِلَى يَسُوعَ مِنْ خَلْفِهِ، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ؛ وَفِي الْحَالِ تَوَقَّفَ نَزِيفُ دَمِهَا.

وَقَالَ يَسُوعُ: مَنْ لَمَسَنِي؟

فَلَمَّا أَنْكَرَ الْجَمِيعُ ذَلِكَ، قَالَ بُطْرُسُ وَرِفَاقُهُ: "يَا سَيِّدُ، الْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ، وَتَسْأَلُ: مَنْ لَمَسَنِي.

فَقَالَ يَسُوعُ: إِنَّ شَخْصاً مَا قَدْ لَمَسَنِي، لأَنِّي شَعَرْتُ بِأَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي.

فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَهَا لَمْ يُكْتَمْ، تَقَدَّمَتْ مُرْتَجِفَةً، وَارْتَمَتْ أَمَامَهُ مُعْلِنَةً أَمَامَ جَمِيعِ النَّاسِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ نَالَتِ الشِّفَاءَ فِي الْحَالِ.

فَقَالَ لَهَا: يَا ابْنَةُ، إِيْمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ؛ اذْهَبِي بِسَلاَمٍ!".

وبتأملنا تلك القصة ولغيرها من قصص الشفاء التي قام بها السيد المسيح، للاحتجاج على بني إسرائيل، وتأكيد معنى نبوته وقدرته على الإبراء من العلل التي عجز الطب عن علاجها، والتي رويت أيضاً في القرآن الكريم بالكثير من التقدير، مثل قوله في سورة آل عمران الآية رقم ٤٩: "وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، يتضح لنا أمران:

الأمر الأول أن هؤلاء المرضى كانوا مصابين بأمراض مستعصية على العلاج بمقاييس زمانهم، وأنهم قد استنزفوا كل السبل البشرية في طلب العلاج، ولم يبقَ أمامهم إلا معجزة إلهية. أي أنهم لم يطلبوا المعجزة الخارقة للعادة إلا بعد أن أخذوا بالأسباب المادية المباشرة.

الأمر الثاني بعد أن يثبت عجز الطب ورجاله عن تحقيق الشفاء، يأتي السيد المسيح ليمنح الشفاء للمريض، وغالبا ما يتم هذا بكلمة واحدة أو لمسة واحدة.

ولكن يسبق تلك المعجزة إيمان ويقين المريض بقدرة السيد المسيح على فعل ذلك، مثلما هو الحال في قصة السيدة نازفة الدم، وقول السيد المسيح- عليه السلام- لها: "يَا ابْنَةُ، إِيْمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ؛ اذْهَبِي بِسَلاَمٍ".

وهذا يعني أن الإيمان بالله وبعدالته ورحمته، واليقين التام بقدرة السماء على تقديم حلول غير تقليدية تتجاوز قدرة وسبل البشر، كان، ولا يزال يمنح الإنسان الأمل في تجاوز مرضه وشقائه. كما يمنحه أيضاً- وهو الأكثر أهمية اليوم- القدرة على تحمل الألم والشقاء وكل صور الابتلاء، حتى وإن لم يتحقق الشفاء.

وبدون هذا الإيمان واليقين التام بعدالة الله ورحمته، تصبح حياة الإنسان وآلامه ومعاناته بلا معنى، وبلا أمل، وضربًا من العقاب غير المفهوم والعبث.

إعلان