إعلان

"عيون المقاهي"... قصة قصيرة

د. عمار علي حسن

"عيون المقاهي"... قصة قصيرة

د. عمار علي حسن
09:59 م الأربعاء 29 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عليك أن ترمي عينيك؛ لتمسح المقهى الضاج بزبائن المساء، وأن يكون بصرك حادًا حتى تخلُص إلى هؤلاء القائمين في جلستهم، وسط هالات دخان السجائر والأراجيل، دون أن تتجاهل ما يلاحقك به صديقك وهو يبحث معك:

تم توزيعهم بقوة وسط الجالسين، يتسمعون ويتنصتون ويكتبون تقاريرهم، وتحسبهم جلوسًا وهم قيام.

لا ترد عليه إلا حين تحدد أماكنهم بخبرتك الطويلة معهم، فوقتها يمكنك أن تقول لصاحبك بصوت خفيض:

هذه مهمتهم القديمة المعتادة.

وتفتش في رأسك عن رجل يرتدي طاقية طويلة كأسطوانة من قماش سميك، وعن جريدته المثقوبة من منتصفها، التي يمد منها عينيه؛ ليتابع ما يجري حوله، وكذلك عصاته التي يغرسها تحت إبطه ويمضي قاطعًا الشوارع خلف أبطال الأفلام القديمة التي تحبها.

سيفهم صاحبك ما طفا على سطح ذاكرتك، فتجده يقول لك:

مخبرو هذه الأيام مختلفون، لا تقتصر مهمتهم على جمع المعلومات وتدوينها، إنما كلفوا من قبل من أطلقوهم وسط الناس، بإشاعة الأخبار التي يراد بثها، والأخطر هو التحرش بأمثالنا.

لن يضيف إليك شيئًا، فأنت تعرف تمامًا أن هؤلاء لا يرتدون أزياء مميزة، ولا يجلسون في وضع المتلصصين بما يلفت الانتباه إلى أنهم مُسيَّرون، وما ينطقونه هو ما تم تكليفهم به، إنما ينخرطون وسط الجالسين، ويتحدثون كأن ما يخرج من أفواههم هو تعبير عن مواقفهم هم. يفرطون في الحديث عن المؤامرة والخراب الذي حل حين نزل الناس إلى الشوارع غاضبين.

هم ليسوا غرباء عنك أبدًا، فقد كنت تراهم منذ الأيام الأولى، حين كانوا يهلون فرادى ومجموعات، ويندسون وسط الحشود العارمة، ويحرصون على ألا يتركوا الناس يتفقون على شيء، بعد أن ينشروا الشائعات بينهم، ويلتقطوا الصور التي ينتجها متحرشون وبلطجية، ويرسلوها إلى من يستخدمونها في إهالة التراب على المشهد الجميل المهيب.

لا يزال يرن في أذنيك ذلك الحديث الذي سمعته من أحدهم، حين اصطدمت به على مقهى في الميدان بعد سنوات من انطفاء الغضب. يومها راح يثرثر ويرمي كلامًا في اتجاهك، كنت في البداية تحسبه شخصًا عاديًا يدلي برأيه، وهو حر فيما يقول على أي حال، فأردت أن تجلس إليه لتفهمه، وارتفع صوتك فشنف الجالسون آذانهم، وتابعوك في صمت، بعد أن وضعوا قواشيط الدومينو والطاولة على الموائد الخشبية البسيطة التي يتحلقون حولها.

قلت له يومها:

"ما جري كمثل من رفع غطاء عن إناء يغلي فيه طبيخ حامض، فانتشرت الرائحة الكريهة في أرجاء المنزل، فقام من فيه ليتهموا من رفع الغطاء بأنه لوث المكان، مع أنه لو ترك الإناء مغلقًا كان سينفجر، وربما يحرق المنزل، ولم يفكر أي منهم في محاسبة من أفسد الطعام".

ثم نظرت في عيون الجالسين وقلت:

الذين غضبوا لم يفعلوا شيئًا سوى رفع الغطاء عن القبح والفساد.

هز رأسه في استهانة، وسألك مطمئنًا إلى أن الجلوس سيوافقونه الرأي:

هل تنكر أن ما كان قبل غضبتكم المشؤومة كان أفضل؟

هز الجالسون رؤوسهم، وكثير منهم أدركوا أن هزيمتك قد وقعت، لكنهم فوجئوا بك تقول:

"يوجد رجل معه مال، لكن بيته كان يتهاوى حتى صار آيلًا للسقوط، وزوجته كانت في أول عهدها بمرض الكبد الوبائي، وابنه كان يمضي في مراحله التعليمية. كان الرجل مسرفًا، فأنفق بسفه على أسرته، ولم يفكر في الغد، حيث لم يعالج الزوجة، ولم يدخر مالًا؛ ليضمن استمرار ابنه في التعليم. فجأة مات، وبعد رحيله بشهرين اهتز البيت، فخطف الابن يد أمه التي تمكن المرض منها تمامًا وخرجا سريعًا، ليريا الجدران وهي تتهاوى وتصير كومة من تراب. لم تمض أيام حتى أدرك الابن أنه ليس بوسعه أن يكمل تعليمه، وذات مساء جلس أمام الخرابة التي صار إليها بيتهم، وأمه تئن بجواره في النزع الأخير، وراح يقول: لا يوم من أيامك يا أبي. تناسى جهلًا أو غفلة أن أباه هو سبب ما هو وأمه فيه".

قال أحد الجالسين، وهو يكاد يصفق:

الله ينور، كلام مقنع جدًا.

يا ليته ما قال هذا، وترك للمكلف بمراقبتك فرصة كي يبحث عن رد في هدوء يخفف من هزيمته. فهو حين شعر أن البساط قد سحب من تحت قدميه، وضع يده على كتفك، وداس بقسوة، وقال لك:

أنت فالح في حاجتين، السفسطة والعِمالة.

اندهشت لقولته. تردد صوتك داخلك: ليست هناك مشكلة في الأولى، فالسفسطة لا تودي بصاحبها إلى حبل المشنقة، لكن الثانية قاسية جدًا، حتى لو بقيت مجرد اتهام.

تطلعت إليه، وأردت أن تكشف حقيقته أمام الجالسين، لكنك تريثت، حتى عاجلك هو:

أنت وكل من منعك خونة.

ولم يكن أمامك من سبيل سوى أن تقول له، بعد أن وزعت ناظريك على عيون الجالسين حتى انتبهوا:

أنت مغرض، وسأكشف للناس حقيقتك.

اصفَّر وجهه، وانكمش داخل ملابسه، وراح يبرطم بكلام غير مفهوم، وفهم الناس ما تقصده. قرأت هذا في عيونهم، ومع ذلك لم يؤازروك، بل اصفرَّت وجوههم، وأبعدوا مقاعدهم بأيد مرتعشة، وأعطوك ظهورهم، وعادوا إلى لعب الدومينو والطاولة، ومنهم من همَّ واقفًا وغادر المقهى، ولمَّا رأى خصمك هذا عادت إليه جرأته، فصرخ في وجهك:

أنت خائن، وأنا مواطن شريف، ولن أتركك إلا في السجن.

إعلان