إعلان

في الصيف لازم نصيف

د. جمال عبد الجواد

في الصيف لازم نصيف

د. جمال عبد الجواد
09:00 م السبت 27 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما حدث للمصايف والمصيفين، عبر عقود، يكشف ما جرى في المجتمع المصري من تغيرات.
لم يعرف المصريون إجازات الصيف والتصييف إلا مع قدوم الخواجات بأعداد كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
المصري الأصيل فلاح، نادرًا ما كان يأخذ إجازة، ولو أخذها فإنه يذهب لزيارة الأولياء في القاهرة أو طنطا، وليس إلى شاطئ البحر.
الشتاء كان هو الوقت المفضل لإجازات الفلاحين المصريين النادرة، لأن الصيف هو فصل العمل الشاق في خدمة الأرض استعدادا لاستقبال الفيضان الذي كان يأتي كل عام حتى وقت قريب.
تعلمنا إجازات الصيف والذهاب إلى البحر من الخواجات الذين أتوا بهذه العادات من بلادهم. رأينا الأوروبيين يذهبون إلى البحر في الصيف، فظننا أن هذه هي عادات الأوروبيين كلهم، ولكنها في الحقيقة لم تكن سوى عادات البرجوازية الأوروبية المقتدرة، فيما كان فقراء أوروبا- وهم الغالبية في ذلك الوقت- يجاهدون لتوفير أساسيات الحياة، فأحوال فقراء أوروبا لم تبدأ في التحسن إلا بعد الحرب العالمية.

في الإسكندرية، عاش أكبر عدد من الخواجات، فتحولت سواحلها إلى شواطئ ممهدة ومعدة لاستقبال المصطافين الخواجات.
على شواطئ الإسكندرية، عرفنا المايوهات بأنواعها. المايوهات التي يلبسها الناس على الشاطئ هي اختراع أوروبي، فأهلنا لم يكن لديهم أبدًا لباس خاص بالبحر، فالرجال عندنا ينزلون البحر بالكلسون، فيما النساء يغطسْن فيه بالجلباب، لو سنحت لهن الفرصة أصلا للاقتراب منه.
لحق المتحررون من أثرياء المصريين بالخواجات إلى الشواطئ، فلبسوا المايوهات مثلهم، فأصبحت هذه هي القاعدة: من يرد أن ينزل إلى البحر فعليه بالمايوه وإلا بدا "فلاح جلف"، أو "بلدي أوي"، أطلقوا عليه في الأزمنة المتأخرة "بيئة".

يستطيع الرجل عندنا أن يلبس على البلاج كما يشاء، فالرجل لا يعيبه إلا جيبه. أما بالنسبة لملابس البحر النسائية، فقد تبلورت حولها ثلاثة مواقف:
الموقف الأول هو أن النزول إلى البحر بغرض التريض والتلذذ هو عادة أوروبية، علينا أن نأخذها بالجملة، فنلبس ما يلبسونه من مايوهات، ونتصرف كما يتصرفون على البلاجات، فنمتنع عن أكل المحشي، ونستبدل به الساندويتشات.
أما الموقف الثاني، فيقول إنه بإمكاننا النزول إلى البحر مثل الأوروبيين، ولكن مع بعض التكييف والتحوير في الألبسة، لتغطية قدر أكبر من الجسم، دون إعاقة أو إفساد لمتعة السباحة، ولملاءمة عاداتنا الشرقية، بعاداتهم الغربية.
إنه موقف الجمع بين الأصالة والمعاصرة الشهير، والذي يسمح بتنوع كبير يبدأ بإطالة أرجل وأذرغ المايوه قليلا، مرورا بارتداء بنطلون طويل تحت المايوه، وصولا إلى البوركيني الذي يغطي الجسم كاملا بما فيه شعر الرأس.
الموقف الثالث يرفض كل هذه الألاعيب المستوردة، إما لأنه متدين أو محافظ جدا، وهو في الحالتين يرفض كل ما يشف أو يصف، فيصبح جلباب الخروج المصنوع من الكستور الثقيل هو نفسه لباس البحر؛ أو أن البحر لم يخلق للنساء أصلا، وهن لم يخلقن للبحر، وعليهن الاكتفاء بالجلوس تحت الشمسية في الظل لمراقبة ألعاب الصغار، ومشاركة الرجال البحلقة في لابسات المايوه من النساء الكاشفات السافرات.

تاريخ تطور المصايف المصرية هو تاريخ مطاردة الأصلاء الأقحاح وأنصار الأصالة والمعاصرة للابسي المايوهات المتشبهين بالخواجات، يذهب هؤلاء إلى مكان بعيد لا يزاحمهم فيه الشعبيون المزعجون، ويتكبدون في سبيل ذلك أموالًا كثيرة؛ ليفاجأوا بعد فترة قصيرة بالزحف الشعبي المظفر، وقد وصل إليهم في أقصى المصايف؛ فيحملون متاعهم، ويرحلون إلى بلاج أبعد، يلحقهم فيه الشعب ثانية، وهكذا.

المشكلة هي أن نصيب مصر من شواطئ المتوسط أوشك على النفاد، وأن المزيد من المطاردة سيجبر لابسي المايوهات على اقتحام الحدود الليبية، مطالبين بحق اللجوء الصيفي، وهو حق أكيد من حقوق الإنسان الحران.

إعلان