إعلان

"لمين بتضحك يا صيف"..

د.هشام عطية عبدالمقصود

"لمين بتضحك يا صيف"..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:07 م الجمعة 12 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحمل الفصول بعضا من روائحنا، عطر الأحبة والكثير من الذكريات، كما أن تحولات الفصول عبر الزمان غيرت ما بقى راسخا في مخيلة الطفولة التي تقبع في ركن مكين في العقل، وهكذا أدركنا الصيف بعد أن صار حارا جدا وأيضا محتشدا بالرطوبة، بعد زمان وكما تغنيها الست "كنتُ فيه الخَلِي"، بعد أن ثبتت في عقولنا صفحات كتاب الجغرافيا ما هو معلوم باليقين الطفولي أنه حار "وبس" صيفا بل وجاف أيضا حتما، ومن ثم كان لزاما علينا لو جاء السؤال في امتحانات مرحلة الابتدائي أن تتكفل آليات الحفظ باستدعاء تلك الجملة لتكمل النقاط الخالية في العبارة: الطقس صيفا هو....

محبة الفصول والارتباط بها ربما ترتبط بدورة العمر، حيث تبدو مرحلة الطفولة والمراهقة -وربما حتى انتهاء الدراسة الجامعية وما بعدها قليلا- واقعة في غرام فصل الصيف، وفيه يطول ويحلو السهر، وتتنوع جولات آخر المساء وما تزدان به المحلات والمطاعم والمقاهي من تجمع الأصدقاء، وحيث لا تغلق أبوابها حتى وقت متأخر، ويزين كل ذلك أنه فصل مرتبط بالإجازة الدراسية حيث لا ثمة اضطرار للاستيقاظ المبكر، كما لا توجد ثمة أعباء ترتبط بأعمال تحتاج انتظاما ومتابعة تجعل السهر وجولات المساء المتأخر مرتبطة بأيام الإجازة الأسبوعية والعطلات، وعلى عكس ذلك يحل فصل الشتاء متزامنا مع الدراسة وما يرتبط بذلك من التزامات.

وكما تعاقب النهار والليل تتباين دورة تفضيلات الفصول بالتقدم في العمر، وحيث يحمل الصيف أيضا معظم ذكرياتنا البهيجة، تؤرخها تفاصيلا لمة الأصدقاء والاجتماع على دهشة الحكايات وقصص غرام تترى حكاياتها، تلك التي تشتعل فجأة كعاصفة وتختفي كأثر الفراشة، حين تبحث عن حيز الذكريات الموسعة المحتشدة بالفرح ستتوهج في ذاكرتك باعتبارها داخل ألبوم الصيف أو أن معظمها كذلك.

ربما ساعد على ذلك تراث غنائي عذب تزامن مع ليالي الصيف "لمين بتضحك يا صيف لياليك وأيامك" يطلقها فريد الأطرش وهو يحكي تجارب الفصول الأربعة يؤرخ بها لمشاعر الإنسان مانحا الربيع حيز الهيمنة ورائحة الزهور، ولعل رائعة عبدالوهاب تظل هي بحق تأريخ قدوم الصيف غناء وشغفا، حيث يتم التوسع جماليا في وصف النسايم التي تسري بها مساءات الصيف لتكون شبها بكلمات المحب "قالي كام كلمه يشبهوا النسمة في ليالي الصيف".

كان يكفي في صيف عرفناه أن نفترش أسطح المنازل مساء –لم تكن أجهزة التكييف أعزك الله مما هو معلوم في الصيف بالضرورة- وكم كانت رحيبة باجتماع الجيران والأصدقاء والواردين من الأقارب حيث لم يكن قدوم أي ضيف يستدعي تجهيزا مبالغا فيه أو استعدادا فائقا، ارتباطا ببساطة وسعة البيوت لمن يدخلها في كل وأي وقت، وتأكيدا حقيقيا للمثل الشعبي الجميل بأن كل المتاح ممكن وحيث "بصلة المحب خروف" وكل القادمين محبون.

تتسع ألبومات الصيف لدوارق الكركديه التي تلمع عبر جدران أوانيها الزجاجية قطع الثلج الكبيرة هنيئا للشاربين، لم تكن غازات المشروبات قد حلت واستقرت بديلا لما عهدناه من تمر وخروب وسوبيا وكركديه هو كبير مقام المشروبات، وحيث لم تكن صرعة البرجر والسوسيس قد صارت بديلا متاحا يسيرا وسهلا لساندوتشات الفول والطعمية والكشري التي كانت تشبهنا ونألفها.

ثم ما يأتي به رحلة الصيف السنوية ومصايفه من ذكريات هي زاد كل عام، هكذا يحمل كتاب الصيف فصلا كاملا بعنوان يوميات المصيف، الانتظار والتجهيز له ثم تفاصيل رحلته التي تحمل بهجة في كل خطوة، وتلك الزهور التي تحملها شرفات الجيران، والصور الفوتوغرافية الورقية الكبيرة التي يلتقطها المصورون الذاهبون علي طول الشاطئ يجسدون تجمع الأحبة على شاطئ البحر وقت الغروب، وشرفة المصيف التي تعلو قليلا عن سطح الأرض بحيث ترى البحر والشارع المؤدي له بينما صوت الكاسيت ينطلق في اتجاه البحر يدير أغنيات "شريط" علي الحجار الجديد وهو يغنى: "وقلبي اللي حبك لآخر مدى".

يمضي بنا التاريخ هرولة بينما تظل كلمات كتاب جغرافيا الطفولة عالقة لا تتغير تحكي عن زمان كان فيه الصيف وبيقين راسخ حارًا وجافًا صيفا بينما هو وفق ذات الكتاب دفيء ممطر شتاء.

إعلان