إعلان

عطاء

عطاء

د. جمال عبد الجواد
09:01 م الجمعة 06 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قبل أسبوع نشر الدكتور سمير فرج في "الأهرام" مقالا جميلا بعنوان "ومشيت في الجنازة وحدي". حكى المقال عن سيدة عرفها الدكتور فرج عندما كان مديرا للشؤون المعنوية في القوات المسلحة. طلبت السيدة مساعدتها في تقديم الدعم لأسر الشهداء من صف ضباط وجنود القوات المسلحة، وظلت السيدة تنفق بسخاء على العشرات من الأسر لسنوات، فكانت تدعم الأسر المحتاجة ليس فقط بالمال، وإنما أيضا بالدعم المعنوي والزيارات المتكررة في أنحاء مصر المختلفة.

تباعدت السبل بين الدكتور فرج والسيدة الكريمة، لكنه بعد خمسة عشر عاما تلقى منها اتصالاً هاتفياً، وقام بزيارتها في دار للمسنين حيث تقيم. علم الدكتور فرج من مديرة الدار كيف أن السيدة الكريمة طلبت مساعدتها للحصول على رقم هاتفه بعد أن شاهدته على شاشة التليفزيون، وكيف أن أولادها الثلاثة الموجودين خارج البلاد وداخلها لا يأتون لزيارتها إلا نادراً. لم تشكُ السيدة من العوَز، فثروتها كانت كبيرة، ولم تشكُ من إهمال أبنائها، فقد وجدت دائما أعذاراً تُبرر غيابهم.

حاول الدكتور فرج إقناع الأبناء بزيارة أمهم، بلا جدوى. حصل الدكتور فرج من الأبناء على صور حديثة لأبنائهم، فأدخل بهجة رائعة على الجدة التي أسعدتها صور أحفادها وقد كبروا. ظل الدكتور فرج يزور السيدة مرة كل أسبوع طوال ما تبقى من حياتها. ماتت السيدة، لكن أبناءها واصلوا الغياب. مشى الدكتور سمير فرج في جنازة السيدة الكريمة وحيداً، وعلم بعد ذلك أن أبناءها شرعوا في اتخاذ إجراءات الحصول على الميراث الكبير الذي تركته لهم.

في مقاله في الأسبوع التالي عاد الدكتور سمير فرج ليكتب عن الاستقبال الرائع الذي استقبل به المقال، وعن مئات الرسائل التي تلقاها من قراء حركت القصة المؤثرة عاطفتهم. وعن الطلب الذي تقدمت به بشكل مستقل ثلاث جهات مختلفة للإنتاج التليفزيوني، عارضين تحويل القصة إلى مسلسل، اتفقوا جميعا، وبدون تنسيق بينهم على تسميته "جحود"، وهنا أصل إلى الغرض من مقالي هذا. لماذا جحود، وليس عطاء؟

القصة فيها من العطاء أكثر مما فيها من الجحود. لقد أعطت السيدة الكريمة لناس لم تعرفهم ولم تقابلهم من قبل. لقد اختارت السيدة الكريمة أن يكون عطاؤها لأسر الشهداء، وفي هذا الاختيار إحساس عميق بالانتماء الوطني. لم تعط السيدة مالاً فقط، فالأمر بالنسبة لها ليس مجرد زكاة يتم إخراجها، ولكنها أعطت دعما معنويا أيضا.

لم تكن السيدة الكريمة هي مصدر العطاء الوحيد في هذه القصة، فما قام به الدكتور سمير فرج معها فيه الكثير من العطاء التطوعي وغير الإجباري. لقد عاود الرجل زيارة السيدة الكريمة في شيخوختها بشكل متصل لمدة طويلة؛ وتواصل مع أبنائها؛ وأحضر منهم صوراً حديثة لأبنائهم، فأدخل البهجة على السيدة الكريمة التي لم تشتك أبداً من إهمال أبنائها.

بالتأكيد هناك جحود في هذه القصة، ولكن لماذا نركز على هذا الجانب، فنجعل منه اسماً للعمل الفني المقترح، بدلاً من التركيز على العطاء الوافر الذي انطوت عليه القصة؛ فالفارق كبير بين أن تكون القصة عن العطاء رغم بعض الجحود، أو أن تكون عن الجحود الذي يطمس العطاء.

هل الأمر يتعلق بثقافة كتابنا ومؤلفينا، التي تجد في التراجيديا وقصص الخيانة والجحود مجالاً للإبداع أكثر مما تجده في قصص العطاء والوفاء والأمل والإيثار والواجب؟ هل الأمر يتعلق بمزاج الجمهور الذي ينجذب للتراجيديا الحزينة أكثر مما ينجذب لدراما القصص النبيلة؟ هل الأمر يتعلق بثقافة سائدة لا تصدق في وجود النبل والإيثار، وتعتبره مجرد دعاية ومواعظ فارغة، لأن الخير غير موجود في العالم، أما الشر فيحيط بنا من كل جانب؟

هل نحن شعب يميل للتشاؤم والحزن، أكثر من التفاؤل والفرح؟ هل الأمر جزء من ثقافتنا الموروثة؟ أم أنه أثر إحباطات العقود القريبة؟ أم أنها روح الاستسهال السائدة بين منتجين ومؤلفين للدراما، لا يريدون أن يرهقوا أنفسهم لتقديم القيم النبيلة بطريقة مسلية وملهمة ومفرحة؟

إعلان