إعلان

سمير الفيل.. قصص من طمي الوطن

سمير الفيل.. قصص من طمي الوطن

د. ياسر ثابت
09:00 م الثلاثاء 23 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يكتب سمير الفيل قصصـًا، وإنما يحكيها.

في مجموعته القصصية "الأستاذ مراد"، يقترب هذا الأديب المخضرم من الواقع بشدة، ويهتم بقصص من طمي هذا الوطن وأرضه، بلا رتوش. وكلما قرأت له لمست براعة اللغة وحسن توظيفها في سياق سردٍ ممتع يمس الروح.

تضم مجموعة "الأستاذ مراد" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (2016)، عشر قصص، تعالج قضايا إنسانية وتجارب إنسانية، عبر إلقاء الضوء على حياة شخصيات تصارع الحياة، بحثًا عن بهجة مفتقدة، أو حلم بعيد المنال، أو رغبة في الانعتاق من واقع مرير. هي محاولة لاقتناص المفارقة في حياة شخوص تبحث عن خلاصها عبر مكابدات يومية، وضغوط معيشية صعبة "في بلدتنا المحافظة، المنكفئة دائمـًا على الشغل والقرش والمصلحة".

لهذا تجده يحكي عن رومانسية "فواطم"، التي تتمنى حياة أسرية وردية، لكنها تتعرض للإهانة والضرب على يد زوجها الفظ، وفي زيجتها الثانية تجرب أن تكون أحلامها هي سرها الخفيّ.

كما نتابع قصة "الأستاذ مراد"، الذي يخشاه الناس، رغم أنه رقيق الحاشية ويعيش على الحافة تمامـًا، وعلى عكس ما يطلق عليه من أحكام ظالمة فهو يصلي بانتظام في حجرته المعتمة بكل تقوى وخشوع.

وفي قصة ثالثة، تجده يحكي عن الجارة "سعاد"، التي خطفت قلب الفتى الطالب في معهد المعلمين. "العام هو 1970، والجيش يحاول أن يستعيد توازنه، ويقرر أن يخوض حرب الاستنزاف لإزعاج الجنود الإسرائيليين في سيناء، وعلى امتداد خط القناة، وأنا في العام قبل الأخير من التخرج، أحضر مسرعـًا لالتهام سندويتش فول قبل الذهاب للورشة بعد العصر".

هكذا يمزج القاص ما بين العام والحاص، ويحكي عن قصة حب تنمو وسط أجواء الحرب والقصف والعدوان. توتر شديد، ولحظات حُبٍّ ناعمة تلطف قسوة الحياة.

في هذه القصة، تفاصيل كثيرة عن العلاقة التي بدأت بالخوف من الكلب الذي يقعد على عتبة باب الجيران، وصولًا إلى دروس خصوصية زادت الشوق في قلبين طريين.

"بعد أقل من شهر حصلت "بطة" ابنة عم عبده على " كعكتين"، الأولى في اللغة العربية، والثانية في الكيمياء، ـ والكعكة دائرة حمراء تحيط بالدرجة الدالة على الرسوب ـ كانت بالصف الثاني الثانوي، متأخرة عاما كاملا عن سعاد التي لم أعد أراها.

"كلمت أمها أمي من شباك المسقط، الذي كانت تربي فيه البط والدجاج، وفيه نخفي ألعابنا الصغيرة من نوى المشمش وأغطية زجاجات المياه الغازية. كنت أسبقها بسنتين، وقد تدربت في معهد المعلمين على طرق التدريس، وخرجنا لتطبيق ذلك في حصص التربية العملية.

استقر رأي أمي أن أذهب لمساعدة "بطة" -التي جاءت شهادتها تحمل اسم فاطمة عبده الشرباصي- في المادتين، لأن الجيرة لها حقوق، ويبدو أن الموضوع جاء بعد أخذ ورد، حيث أقسم عم عبده الحشاش على ألا يدخل بيته أي أحد من الشقة المجاورة لأن أمي لا ترد عليه السلام، وإذا رأته تغلق الباب كأن الطالع سلم البيت عفريت.

"كان عم عبده ينظر نحونا بريبة، لكن ابنه الأخرس شوقي، رغم صغر سنه، محل عطف مني ومن أمي، فمع تعودنا عليه فهمنا لغة الإشارة وترجمنا همهماته التي تصاحب حركات يديه العصبيتين".

هذه المقاطع من القصة مضفورة بإحكام، وتقدم لنا جانبـًا من شخصية القاص ورؤيته الإبداعية التي تلامس الحياة المعيشة بتفاصيلها التي تدخل في باب السهل الممتنع. فهي معلومة لكثيرين، لكن الكتابة عنها ليست بتلك السهولة واليسر.

حتى بعد عودة سعاد بعد غياب طويل لسفر عائلتها لمرافقة الأب في ليبيا، نلمس مسحة شجن غير خافية.

"دخلت الحجرة الصغيرة التي كنا نذاكر فيها، فوجدت سعاد تنتظرني. خجلت أن أقبلها رغم أنني رسمت سيناريو اللقاء عشرات المرات، وفيه كنت أعتصر خصرها عندما أراها للوهلة الأولى، حتى لو كان ذلك في نهر الشارع. تركتنا بطة بحجة إعداد الشاي. وجمتْ ووجمتُ.

قلت لها: "سعاد، إزيك؟"

سألتني: "عامل إيه؟"

"كانت بصتها محملة بمشاعر دافئة. سحبت الأطلس، وسألتها أن تريني "نهر نربادا" قالت بجدية، وهي تصوب سبابتها نحوه بالضبط: "هنا. بين المراعي الخضراء، لكن العصفور مش هتسمعه زي زمان!".

"ضحكتُ وهي التزمت الصمت، شعرت أنها تنتظر مني كلمة، أو مجرد تلميح لزيارة بيتها.

"أخبرتها أن دفعتنا قد تأجل تجنيدها لثلاث سنوات تنتهي بعد عام واحد، وفي ثنايا الكلام علمت مني أنني لم أتمكن من تدبير مبلغ يمكنني أن افتح به بيتـًا".

شظف العيش وظروف الحرب يقفان عائقـًا أمام حلم سرعان ما سيتبدد وغرام لم تشأ الأقدار له أن يكتمل. أما القارئ، فهو الوحيد الذي يشعر بالشغف ووخزة في القلب، حين تتعثر الحكاية بسبب ظروف خارجة عن الإرادة، يعبر عنها سمير الفيل ببلاغة متناهية في نهاية قصته، كالتالي:

"ضربت صافرات الغارة مساء يوم، وأنا أكاد أصعد أولى خطواتي على السلم، أظلمت الدنيا فجأة. في العتمة رحت أتلمس طريقي، شعرت بنحيب خافت. لم يكن معي شمعة، دققت على العتبة. سمعت صوت سعاد:" أزيك يا سمك إيه؟ "

سألتها كالمذهول: "إنت نازلة في الضلمة ليه؟"

قالت وهي تجمع كلماتها بصعوبة: "كنت باستناك. وما كنتش عارفة إن فيه غارة".

مددت يدي أتلمس طريقي، اصطدمت يدي بيدها، رغم العتمة أدركت أن دموعها ما زالت تسيل على خديها. رفعت يدها بمحاذاة شفتي، وقبلتها.

تركتني أفعل. اكتفيت بهذا تعبيرًا عن إخلاصي لها، أما هي فقد أسرعت باحتضاني، قالت لي بهمس أقرب للأنين: "هاتخطب الجمعة الجاية".

طلع صوتي رغمـًا عني: "مش كنت تستني شوية؟"

قالت لي وحزنها يُطرّز الكلام: "معلهش، مفيش قسمة ونصيب"

أمسكت بيديها وضممتها نحوي فأبعدتني بحسم: "بعد إيه؟"

تهاوت يدي واختنقت بكلام دار في عقلي، ولم أنطقه أبدًا.

شعرنا سويـًا بارتطامات صاروخية قريبة من الشارع الحربي، صاح من في الشارع: "كله يطفي النور".

تركتها تهبط لتعود إلى بيتها، بينما ظللت متسمرًا في مكاني. ولم يأتِ النور أبدًا".

إعلان